الحاجة لفلسفة سياسية عربية

04:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

أية مراجعة للفلسفة السياسية في مسيرة الحضارة الغربية ستظهر أن مسيرة الفكر الفلسفي السياسي قد مرت في مرحلتين متباينتين في المنطلقات. في المرحلة الأولى، التي بدأت في أثينا الإغريقية على يد فلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو وانتهت بالعصر الوسيط الأوروبي على يد فلاسفة من أمثال القديس أوغسطين وتوماس الأكويني، كان الفكر السياسي منشغلاً بالمعاني والأهداف الكبرى للحياة الطيبة السامية ومركزاً على الطرق والوسائل السياسية لايصال المجتمعات لتعيش تلك الحياة الطيبة الرفيعة، كان الفكر منصباً على المجتمع وليس على الفرد، وعلى الغايات الانسانية العليا وليس على رغبات الفرد.

في الفترة الثانية، التي بدأت في القرن السابع عشر على يد فلاسفة من أمثال توماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو وانتهت في عصرنا بمجموعة كبيرة من فلاسفة الفكر السياسي كان آخرهم الفيلسوف الأمريكي جون رولز، في هذه الفترة ركزت الفلسفة السياسية على الأهمية القصوى للفرد وحقه في أن تستجيب المجتمعات لمطالبه ورغباته وحاجاته الفردية، لم تعد المجتمعات بحاجة لأن تنضبط ضمن غايات وأهداف عليا تقودها إلى الحياة الطيبة، وإنما المهم هو حرية الأفراد في بناء نوع المجتمعات التي يرغبون وفي السيطرة على الحياة السياسية بحيث لا يسمح لأية سلطة أن تتحكم في الفرد أو تخضعه. الفرد الحر في اختياراته وفي تصرفاته، الذي له حقوق طبيعية وسياسية واقتصادية متنامية، أصبح الهاجس الأساسي في الفكر السياسي إبان مرحلته الثانية، لم يعد هناك مكان لفلاسفة أفلاطون الذين سيضعون أهداف الدولة ويحكموا من خلالها، ولا مكان للملوك الذين يدعون بأنهم يحكمون باسم سلطة السماء، ولا مكان لأية أقلية لتحدد معاني وشروط الحياة الطيبة وتفرضها على المجتمعات.

لكن مسيرة الفلسفة السياسية لن تنتهي، فاليوم يطرح العالم على فلاسفة المرحلة الثانية، التي هي في الأساس المرحلة الليبرالية الكلاسيكية وابنتها الليبرالية الجديدة، يطرح السؤال التالي: هل رغبات أفراد المجتمعات والدول قادرة على أن تتحلى بمقدار من الحكمة والعقلانية لتقرر نوع الحكومات التي يجب أن تقوم ونوع القوانين التي يجب أن تهيمن ونوع الحياة التي يجب أن تبتغى؟ هذا سؤال مشروع لا يمكن تجاهله مهما كانت الايديولوجية السياسية التي ننتمي إليها. وهو سؤال قد ينبئ عن بداية مرحلة ثالثة في سيرورة الفلسفة السياسية الغربية، لكنه أيضاً سؤال يطرح نفسه علينا نحن العرب. ذلك أنه عبر تاريخنا الطويل لم يتكون لدينا تيار متدفق متنامي ومتراكم من فكر فلسفي سياسي، بل إن تاريخنا الفكري قد أهمل إلى حدود مفجعة أهمية وضع تصور فلسفي متكامل بشأن قضايا الحكم وأسس العلاقات بين السلطة والفرد، وممارسة السياسة اليومية من خلال مؤسسات توازن وتراقب بعضها البعض وتمنع الشطط والاستبداد في الحكم.

وعندما قامت الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال عن حكم الأجنبي المستعمر لم تجد مفراً من أخذ الفلسفة الغربية وتطبيقاتها المتباينة بصور تجزيئية شكلية وغير مترابطة. فكانت النتيجة هي أنماط من الفكر السياسي والممارسة السياسية التي لا ترتبط بتاريخ وثقافة الأرض العربية وانما هي أشكال من التقليد المظهري المتردد السطحي الانتقائي لفكر وتجارب الآخر الغربي.

وها نحن اليوم نرى الأنظمة الجمهورية تصبح وراثية، ونشاهد التزوير المفضوح في عمليات الانتخاب وغموض العلاقات بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وغير ذلك من تناقضات صارخة مع ما ندعي أخذه من الفكر الفلسفي الغربي.

من هنا تبدو الأهمية القصوى لبناء تيار فكري فلسفي سياسي عربي ينطلق من المعطيات العقيدية والثقافية والتاريخية للأمة العربية وينفتح في الوقت نفسه على فكر وتجارب الآخرين، ويحاول تجنب الوقوع في المآزق الواقعية التي وقع فيها ذلك الفكر وأظهرتها تلك التجارب.

لقد مر على الوطن العربي حوالي قرن كامل وهو يكتفي بتذوق ما يتركه الآخرون على موائدهم من دون أن يؤدي ذلك إلى شبع أو صحة. أما آن الأوان لطبخ وجبة فكرية سياسية متكاملة وغنية تصلح للمعدة العربية وللجسم العربي؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"