الحوكمة الأمنية ومكافحة الإرهاب

04:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

أصبحت الأزمات والصراعات أكثر تشابكاً وتعقيداً في عالم اليوم، كنتيجة حتمية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية التي شهدتها المجتمعات البشرية، خلال العقود الأخيرة، وهو ما أصبح يفرض اعتماد سبل ناجعة للتعاطي مع مختلف هذه الإشكالات، كسبيل لتحويلها من خطر إلى فرصة تسمح بالاستفادة من التجارب القاسية ورسم استراتيجيات كفيلة ببلورة حلول مستدامة وآمنة، تسهم في تحقيق التنمية والأمن بمفهومه الواسع.
وفي هذا السياق، تطرح أهمية الحوكمة كأسلوب رشيد وحديث، ينحو إلى تحقيق الجودة، عبر استحضار مجموعة من المقوّمات، كالشفافية، والتخطيط الاستراتيجي، وتعبئة الإمكانات المتاحة، والتشاركية.
للحوكمة مظاهر عدة تتصل بمجالات إدارية واقتصادية وسياسية وأمنية.. وتهدف هذه الأخيرة (الحوكمة الأمنية)، إلى المساهمة في دعم التنمية، وتعزيز السلام عبر توفير مناخ الاستقرار وتأمين المعاملات والعلاقات المختلفة.. ويظل الرهان الأكبر الذي تسعى إلى كسبه هو الموازنة بين تحقيق الأمن بكل عناصره وأبعاده، وضمان استقرار الدولة من جهة، وخدمة المواطن وحمايته وحفظ كرامته وممتلكاته واحترام حقوقه من جهة أخرى، عبر استحضار سبل التواصل والدبلوماسية والمرونة والنجاعة والقرب في تدبير المخاطر والأزمات، والتعاطي معها بأسلوب علمي واستراتيجي يقوم على التخطيط والتوقع.
وللحوكمة الأمنية، ثلاثة أطراف أساسية، أولها الدولة كفاعل مركزي، ثم المجتمع المدني والقطاع الخاص، وأخيراً توفر ثقافة الحوكمة داخل الإدارات وفي أوساط المجتمع.
وتصاعدت مخاطر الإرهاب في العقود الأخيرة، وتحولت الظاهرة إلى أحد العوامل المهددة للسلم والأمن الدوليين، مع ظهور جماعات مسلحة أكثر خطورة، وتمدد عملياتها وتحركاتها في مناطق مختلفة من العالم.. وبالرغم من الجهود المبذولة لمحاصرتها، إلا أن التقارير الدولية والوقائع تشير إلى أن الظاهرة ما زالت تتمدد وتفرز مخاطر عابرة للحدود.
ويبدو أن قصور المقاربات الوطنية والدولية المتصلة بمكافحة الإرهاب، تعود في جزء أساسي منها إلى عدم استحضار العوامل المغذية للظاهرة في شموليتها، واعتماد الأساليب البعدية والعلاجية أكثر من الجوانب الوقائية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.
إن المكافحة الناجعة للإرهاب تتطلب اعتماد مقاربات شمولية أفقياً وعمودياً، كما أن الأمر يفرض اعتماد قدر كبير من التعاون والتنسيق الدوليين، والعمل على تدبير الأزمات التي غالباً ما تشكل عاملاً مغرياً ومشجعاً لانتشار لظاهرة.
وتظلّ الحوكمة الأمنية أساسية ومحورية ضمن السبل الاستراتيجية الكفيلة بمواجهة الظاهرة، وتحققها لا يخلو من صعوبات وانحرافات حتى داخل الدول المتقدمة والديمقراطية، فالعالم ما زال يتذكر فضائح انتهاكات سجن «أبي غريب» من قبل القوات الأمريكية في العراق، كما أن الدول الأوروبية، فشلت خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير في تدبير ملفات الهجرة، بعدما طغت المقاربات الأمنية على حساب استحضار المعاناة الإنسانية.
ثمّة العديد من المقوّمات التي يمكن أن تسهم في تضييق الفجوة بين إرساء الأمن من ناحية، واحترام وحماية حقوق الإنسان من ناحية أخرى، وهي تتلخص في تعزيز الأمن، بما لا يتناقض ومبادئ حقوق الإنسان، والاقتناع بأن تهديد الأمن أو خرقه هو مس بالحقوق والحريات أيضاً، علاوة على ترسيخ تربية حقوق الإنسان وثقافة تدبير الأزمات والمخاطر ضمن البرامج التعليمية ومخرجات وسائل الإعلام المختلفة، مع تطوير القدرات بالنسبة للأجهزة الأمنية، ثم إرساء استراتيجية متكاملة وتشاركية، والاستفادة من الفرص التي تقدمها التكنولوجيا الحديثة في هذا الصدد.
كما يتطلب الأمر إرساء قدر من الثقة بين المجتمع وفعاليات المجتمع المدني والفعاليات الحقوقية من جهة، والأجهزة الأمنية من جهة أخرى، مع الاقتناع بأن تحقيق الأمن في بعده الاستراتيجي لا يقتصر على الأجهزة الأمنية بمفردها، بقدر ما هو مسؤولية جماعية، تتحمّلها الكثير من الفعاليات من مجتمع مدني وإعلام، وأسرة..، بل إن الأمر رهين أيضاً بمساهمة المواطن نفسه.
تشير الكثير من التقارير والدراسات العلمية، إلى أن تجارب التحوّل الديمقراطي، تمّت بالموازاة مع إصلاح القطاع الأمني وإرساء مقومات الحوكمة الأمنية، كما تشير أيضاً إلى الأدوار الطلائعية التي أصبح يستأثر بها القطاع الأمني (المحوكم) على مستوى توفير شروط الاستثمار ودعم جهود التنمية.
بالرغم من وجود بعض الإصلاحات التي طالت القطاع الأمني في عدد من الدول العربية، انسجاماً مع التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها هذه الدول، فإن الكثير من المحطات والأحداث التي حدثت خلال العقد الأخير، أثبتت بالملموس وجود اختلالات على مستوى التعامل مع الاحتجاجات والتظاهرات الاجتماعية، عبر المبالغة في استخدام القوة، في تجاوز واضح للقانون وللمواثيق والتشريعات ذات الصلة بحقوق الإنسان.. وهو ما يتطلب بذل الكثير من المجهودات على طريق إرساء حوكمة أمنية قادرة على تأمين التحوّل الديمقراطي وتحقيق التنمية.. واعتماد مجموعة من المبادرات التي تروم عقلنة استخدام القوة بربطها بشكل صارم بالقانون والتشريعات والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان.
تتزايد التحديات والمخاطر التي يطرحها تمدّد الإرهاب في عدد من دول المنطقة في استغلال تام لبؤر التوتر القائمة، ما يفرض أخذ الحذر واليقظة، واعتماد سبل مستدامة واستراتيجية للحد من هذه الظاهرة العابرة للحدود على المستويين الأفقي والعمودي.
إن تأكيد المقاربة الشمولية، لا ينفي قط أهمية المقاربات الأمنية، فالرهان يظل كبيراً على الحوكمة الأمنية، كأحد المداخل المهمة والناجعة في هذا السياق، لارتباطها بتدابير وقائية وعلاجية، تسهم حتماً في تطويق الظاهرة في إطار من التكامل مع مختلف الجهود والإجراءات الأخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"