الدولة العريقة والرؤى الغائبة

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .مصطفى الفقي
ليس من شك في أن مصر واحدة من أقدم الأمم وأعرقها على الإطلاق، فهي صاحبة حضارة ملهمة مازالت الدنيا تحاول فك ألغازها وفهم المغزى العميق الذي وقف وراءها، فهذه الدولة بأعماقها وآفاقها ظلت عبر التاريخ مركز جاذبية واهتمام حتى إن علم "المصريات" يعتبر واحداً من الدراسات الأساسية في تاريخ الحضارات وعلم سيكولوجية الشعوب، والآن دعنا نغوص قليلاً في أعماق تلك الدولة نتلمس بعض ما يمكن أن نمضي نحوه ونستند إليه لفهم السبب في حالة الارتباك السياسي والثقافي والاجتماعي التي طرأت على مصر في العقود الأخيرة، نسوقها في النقاط التالية:
* أولاً: إن الدول ذات الحضارات القديمة التي تضرب بأعماقها في جذور التاريخ تبدو أقل قابلية وأكثر صعوبة في التحرك إلى الأمام بحيث تصبح أكثر معاناة من تلك التي لا تملك رصيداً تاريخياً ضخماً وذلك بسبب ركام ضخم من المواريث المستمدة من قيمٍ قديمة وتقاليد قد تكون بالية وهي التي تكبل حركتها إلى الأمام، إن دولاً مثل الصين والهند وبلاد النهرين ومصر لا تستطيع البناء إلا على الأسس القديمة بينما نجد الدول الإفريقية الحديثة قادرة على نقل التجارب الأخرى بسهولة من دون ارتطامٍ بذلك الحجم الضخم من الميراث الحضاري الكثيف
* ثانياً: إن مصر التي تحدثنا عنها دائماً بعبارات "الدولة العميقة" هي أيضاً ذاتها "الدولة العريقة" بحيث ترى الماضي والحاضر فيها معاً في وقت واحد، لقد رأيت بعيني في الهند على سبيل المثال أقصى التقدم وأشد التخلف يمضيان معاً في وقت واحد! كما رأيت هناك أيضاً الفقر المدقع والغنى الفاحش لأنها ظلال حضارة ضخمة لا يمكن البدء فيها من درجة الصفر بل لابد من التشييد على دعائم قائمة بالفعل حتى ولو لم تكن دعائم عصرية وذلك يؤدي أحياناً إلى ضعف روح التجديد نتيجة الارتباطات "الماضوية" التي تمثل حاجزاً في مسارات التقدم إلى الأمام! وهنا لا أجد غضاضة في أن أقول إن بعض التقاليد الثقافية والمواريث الحضارية بل والروح الدينية أيضاً تمثل أمام بعض الأمم القديمة مانعاً فكرياً من دون اقتحام العصر الحديث بما له وما عليه بحيث تصبح تلك الشعوب العريقة أسيرة لقيد ضاغط من الأفكار والقيم والمشاعر، فالثقافة عامل رئيسي يؤثر في المستقبل ويغير معالمه ويرسم خريطة مختلفة لأنها تأثرت بروح الماضي الذي لا تملك الفكاك منه .
* ثالثاً: إن الأمم كالبشر تصيبها الشيخوخة ويعتريها الهرم، وكم من حضارات سادت ثم بادت، كما أن استقراء التاريخ يعلمنا دائماً أن هناك حضارات ارتفعت في عصورٍ معينة ثم تراجعت بعد ذلك، إن إسبانيا والبرتغال كانتا في المقدمة إبان عصر الكشوف الجغرافية، وبريطانيا وفرنسا كانتا في المقدمة إبان الحقبة الاستعمارية، ثم دخلنا في عصر "السلام الأمريكي" Paxa Americana فليست هناك أبدية للتقدم والازدهار وإن كانت معايير العصر الحاضر توحي بأن انتعاش الأمم قد يطول كثيراً عن عصور سابقة بمنطق التقدم العلمي والتفوق التكنولوجي وليس بالقوة العسكرية وحدها التي كانت من قبل معياراً متقدماً، ولذلك فإن بلوغ بعض الأمم مرحلة الشيخوخة والهرم يؤثر في تناولها لمعطيات العصر واستخدامها لأدواته ويضعنا أمام تحديات جديدة تضاف إلى المصاعب التي تواجه الديمقراطية والتنمية معاً، وتؤثر في قدرتها على الانتشار الواسع والحركة السريعة .
رابعاً: إن غياب المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضوية والتحديث، بين السابق والمتجدد قد أصبح يفرض نفسه على حركة الأمم العريقة والدول العميقة خصوصاً تلك التي تمتلك جهازاً إدارياً ربما انتهى عمره الافتراضي ولكنه مازال قائماً يكبل الحركة ويمنع المضي إلى الأمام، إن تلك الروح التي تتمسك بالقديم تذكرنا بشعار ساد منذ سنوات تقول فيه شركات المعمار (انسف حمامك القديم) وهنا تبدو المفارقة، فالأمم والشعوب لا تنسف ماضيها بل تظل متأرجحة بين القديم الذي لديها وبين الجديد الذي لا تتقبله بسهولة، إنها المعادلة الصعبة التي عرفتها شعوب وأدركتها دول منها مصر التي أشعر أحياناً بأن كثيراً من مظاهر الحياة العريقة فيها قد أصابتها أعراض كبر السن والشيخوخة، ولعل الاتجاه لبناء "عاصمة إدارية" للكنانة هو تعبير غير مباشر عن العلاقة بين الماضي والمستقبل وبين التراث والحداثة .
خامساً: إن قضية الهوية ذات طابع حضاري وثقافي، فالتعريف الدقيق للحضارة هو أنها "نسق ثقافي" ومنظومة إنسانية متكاملة من البشر إلى الحجر ولكنها تترك بصمة قوية على وجه الأمة وفي وجدان الشعب، لذلك فإن التمسك بها لا يقاوم التحديث ولا يعتبر نقيضاً للتقدم، لقد عشت في الهند سنوات ورأيتهم كيف يبنون قواعد المستقبل منطلقاً من الهوية الهندية والشخصية الحضارية لتلك الأمة الكبيرة، ولعلنا نؤمن في عالمنا العربي بأن التمسك بالثقافة القومية لا يمنع التجدد والتطور والتقدم، فلكل دولة ظروفها، ولكل دولة تراثها، ولكل شعب مقوماته، ويجب أن ندرك هنا أن الحداثة ليست هي "التغريب"، كما أنه لا يعتبر كل تحديث مضياً على طريق الغرب! فالأمم الشرقية خصوصاً الصين والهند واليابان قد مضت في طريقها منطلقة من هويتها القومية ولم تتحول إلى مسخٍ مشوّه من تجارب غربية قد لاتصلح بالضرورة لبلادنا العربية، فالخصوصية علامة مميزة وماركة مسجلة في التجارب الإنسانية الحديثة .
. . إن الملاحظات السابقة تعطينا قراءة واضحة للعلاقة الوثيقة بين الدولة العريقة والرؤية الغائبة، ف"الكتالوج" الذاتي هو الذي تبني به الدول مستقبلها وتشيد وفقاً له معالم غدها مع احتفاظها بالهوية وحرصها على النسق الثقافي والسلوك الإنساني اللذين تميزت بهما دائماً .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"