الدولة والعولمة في أمريكا

03:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
منذ تسعينات القرن المنصرم، باعدت الولايات المتحدة الأمريكية المسافة العولمية بينها وبين القوى الدولية الأخرى، مستفيدة من عوامل سياسية استراتيجية، وأخرى تتعلق بالتطور الكبير لقطاعي المعلومات والاتصالات الأمريكيين. وكان سقوط الاتحاد السوفييتي فرصة هائلة لأمريكا كي تفرض نفسها كقطب أوحد على الساحة العالمية، على الرغم من الترويج الإعلامي الأمريكي الداعي إلى إقامة نظام قطبي متعدد على مستوى العالم، وهو الأمر الذي ما زال يصطدم بعوائق عدة.
وبات معروفاً أن قطاع الصناعة الأمريكي قد تخلى كلياً أو جزئياً عن بعض الصناعات التكنولوجية الثقيلة، والموصوفة بأنها صناعات تقليدية، معتمداً بشكل كبير على الريع العالي الذي تدرّه صناعة تكنولوجيا المعلومات، مدعومة بمراكز بحثية تعمل على زيادة الهوة في هذا القطاع بين الشركات الأمريكية وغيرها من الشركات اليابانية والصينية والأوروبية، وهو ما أفضى إلى شكل من أشكال الهيمنة الأمريكية على هذا القطاع، وما ينطوي عليه من قدرة هائلة على مدّ المؤسسات الأمريكية بسيل متدفق من المعلومات، تمنحها القدرة على السيطرة والتحكم العالميين.
وفي واشنطن العاصمة، أصبح اعتماد الإدارات الأمريكية المتعاقبة متزايداً على مؤسسات شبه حكومية أو خاصة تعمل على دعم صنّاع القرار، وقد باتت تلك المؤسسات متشابكة في مصالحها مع الطبقة السياسية النافذة، وهو ما يظهر جلياً في بعض السياسات الأمريكية المتعلقة بالأمن القومي في شقيه الداخلي والخارجي، حيث تخدم تلك السياسات ديمومة عمل الكثير من المؤسسات الممولة حكومياً بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، وهو ما تم انتقاده مراراً خلال السنوات الأخيرة عبر وسائل إعلامية عدة، ومن تلك الانتقادات ما تمّ توجيهه إلى إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما حول إنشاء مؤسسات وهيئات كثيرة، بلغ عددها عشرات الهيئات، من أجل المحافظة على الأمن القومي، وبعضها متخصص في قضايا الإرهاب، من دون أن يكون هناك وضوح كافٍ في عملها، أو في محاسبتها.
إن الكثير من المؤسسات والهيئات الأمنية الأمريكية التي أنشئت بعد حوادث سبتمبر/أيلول 2001، استثمرت في مخاوف الأمريكيين من عودة الإرهاب، وانطلقت من خلال مفهوم «الحرب الاستباقية»، لكن من دون أن يقلّ الإرهاب في العالم، بل أن أحداث الأعوام الأخيرة في الشرق الأوسط كشفت ظهور نسخ مطورة عن الكيانات الإرهابية التي عرفها العالم في العقد الأول من الألفية الثالثة، وأكثر قدرة منها في التنظيم والتخطيط والتنفيذ، حتى باتت تحتل بعضاً من الأراضي في دول ما يسمى «الربيع العربي»، وهو ما يعني وجود فشل كبير لتلك المؤسسات التي أنشأتها إدارتا بوش الابن وباراك أوباما.
إن مصالح الرأسمال الأمريكي المعولم والطبقة السياسية في واشنطن تتشابهان من حيث ابتعادهما عن الفئات الاجتماعية الواسعة في البلد الأقوى في العالم، مع وجود ميل إلى عدم التصادم، وإدارة المصالح فيما بينهما، وهو ما أثّر فعلياً، بل وضغط سلباً، باتجاه عدم ظهور نخبة سياسية ذات بعد وطني داخلي، وهو الأمر الذي استثمر فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الدعائية، عبر رفع شعار «أمريكا أولاً»، وقد تمكن بهذا الشعار من النجاح، على الرغم من كل ما قيل عن انعدام كفاءته السياسية، خصوصاً أنه قطع وعوداً بدعم قطاع الصناعات التكنولوجية الثقيلة، والتي توفر فرص عمل هائلة، لكنها قطعاً لا تتماشى مع التوجهات العولمية لكبريات الشركات الأمريكية.
وإذا كانت الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية لم تتبنَ عبر تاريخها قوانين الحماية الاجتماعية كما عرفتها أوروبا، فإن الصناعات التقليدية الكبرى التي كانت تحتاج إلى قوى عاملة كثيرة كانت كفيلة لعقود طويلة أن تحافظ على التوازن الاجتماعي، عبر خلق مزيد من الفرص في قطاعات الأعمال المختلفة، وهو ما قلّصته العولمة، وغيّرت من شروطه، بحيث اتسعت الهوّة بشكل كبير بين الطبقات، مع غياب أي توجه حكومي إلى تبني حزمة من الإجراءات التي تحمي الطبقات الاجتماعية.
إن التوجهات العولمية للشركات الأمريكية التي لا تأخذ في الحسبان التناقضات الداخلية في المجتمع الأمريكي، مع غياب أي مساءلة جدية لها (نظرية وعملية) من قبل الدولة، وهيمنة طبقة سياسيي واشنطن على صناعة القرار، تفسر إلى حد بعيد حالة الفراغ التي أسهمت في صعود التوجه اليميني الذي يمثله ترامب، حيث باتت كل المعطيات تشير إلى ظهور صراعات داخلية بين الإدارة وبين النخب السياسية النافذة، وبين الإدارة والنخب الرأسمالية المعولمة. نحن أمام حقبة أمريكية جديدة، ستدافع فيها العولمة الأمريكية عن مكاسبها، كما ستكون فيه الدولة الأمريكية أمام مواجهة أسئلة لطالما هربت منها على مستويي الداخل والخارج، ومن أهمها: إلى متى يمكن لأمريكا أن تقوم بمهمة إدارة الأزمات بدلاً من حلها، ليس فقط على مستوى الخارج، بل أيضاً على مستوى الداخل الأمريكي نفسه؟.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"