الرهان الجيوسياسي للجامعات العالمية

03:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

الجامعات ستظل تمثل في المرحلة المقبلة ميدان المواجهة الأكثر قوة وإثارة بين الشرق والغرب.
انتقل دور المؤسسات الجامعية خلال العقود الأخيرة، من المجال العلمي والتعليمي الصرف، إلى المجال الجيوسياسي في سياق انتشار عولمة جامعية غير مسبوقة، تتنافس في سياقها القوى الكبرى على التفوق والهيمنة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي بين 3 أقطاب رئيسية هي: أمريكا الشمالية، وغرب أوروبا، وشرق آسيا، وبخاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية. وأصبحت الجامعات العالمية الكبرى، تمثل رهاناً أساسياً في المنافسة الدولية من أجل احتلال المراكز الأولى في التصنيف الدولي للجامعات، مع العمل على استقطاب الكفاءات العلمية القادرة على تقديم أبحاث وابتكارات متقدمة في مجالات مثل الطب والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي. ومن المؤكد بناءً على كل هذه التطورات التي يشهدها الآن عالم البحث العلمي، أن الجامعات ستظل تمثل في المرحلة المقبلة، ميدان المواجهة الأكثر قوة وإثارة بين الشرق والغرب.
وترمز عولمة الجامعات إلى الظاهرة التي تتميز بتزايد أعداد الطلاب، وارتفاع معدل التبادل الدولي للطلبة في كل بقاع المعمورة، في لحظة يتم فيها نقل المؤسسات الاقتصادية من الدول الصناعية نحو مناطق أخرى، تعرف نسباً مرتفعة من النمو ووفرة في اليد العاملة المؤهلة وغير المكلفة. وفرضت هذه العولمة معايير جديدة للتصنيف، قائمة على القدرة التنافسية في مجال البحث، وتقديم براءات الاختراع على حساب التكوين والتعليم الجامعي، الهادف إلى نشر المعرفة على نطاق واسع، الأمر الذي ساهم في تبني النموذج الأنجلوساكسوني للجامعات في أهم الدول الأوروبية والآسيوية، وأدى ذلك إلى تراجع الخصوصيات الوطنية في مجال التعليم الجامعي، وإلى تقليص قدرة الحكومات على توجيه برامج التكوين الجامعي، انطلاقاً من أهداف تخدم مصالحها الخاصة.
وقد استطاعت الجامعات الأمريكية أن تحافظ على صدارتها في ترتيب الجامعات العالمية منذ اعتماد تصنيف شنغهاي سنة 2003، الذي كرّس بشكل شبه مطلق الهيمنة الأمريكية على فضاء الجامعات، ومراكز البحث العلمي في العالم ؛ وتحوّل التعليم الجامعي الأمريكي إلى معيار يفرض قوالبه على الجامعات العالمية العريقة في ألمانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا؛ وأضحت واشنطن توظف معيار هذا التفوق من أجل استقطاب العقول المبدعة، وفي توجيه البحث العلمي نحو مجالات تسهم في احتفاظ شركات التقنية الأمريكية على هيمنتها الاقتصادية.
وتنبهت الصين من جهتها إلى الرهان المتصاعد للجامعات في الصراع الدولي، وعليه فقد قرّر الحزب الشيوعي الصيني في مؤتمره التاسع عشر، اعتماد سياسية جديدة قائمة على الانفتاح المتدرِّج والمدروس للصين ولمؤسساتها الجامعية على العالم من أجل استقطاب الطلاب من الدول الصاعدة، إضافة إلى ملايين الطلبة الصينيين الذين يحصلون على تكوين نوعي داخل الصين وخارجها في الجامعات الغربية الكبرى. وتسعى الصين من خلال الانفتاح على المحيطين الإقليمي والدولي إلى إعطاء بعد عالمي لجامعاتها، وإلى دفعها إلى المساهمة بشكل أكثر قوة في التنافس الاقتصادي والعلمي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كما يقوم الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة ببذل الكثير من الجهود للدفاع عن المكانة التاريخية لجامعاته، حيث تستميت فرنسا من جانبها عبر منظمة الفرانكفونية للحفاظ على مصالحها من خلال دعم التكوين باللغة الفرنسية في بعض دول شرق أوروبا مثل رومانيا وفي غرب إفريقيا، لمواجهة الاجتياح الكبير للانجليزية في مجالات التعليم والبحث في الجامعات العالمية.
أما على المستوى العربي والإسلامي فقد لعبت المؤسسات الجامعية الوطنية منذ منتصف القرن الماضي، دوراً مهما في ترسيخ المكانة الجيوسياسية لدول المنطقة، حيث أسهمت الجامعات المصرية، وفي طليعتها جامعة القاهرة في تكوين العديد من النخب والكفاءات العربية التي كان لها دور كبير في ترسيخ الوعي القومي، وفي الدفاع عن مشروع الوحدة العربية في زمن حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجامعات العربية في الخليج والمغرب العربي التي تسهم بشكل واضح في توطيد علاقة الدول العربية بدول إفريقيا وآسيا، فقد مكّن مثلاً استقبال الجامعات في المغرب وتونس والجزائر لطلاب أفارقة، من تكوين العديد من النخب والقيادات السياسية في إفريقيا جنوب الصحراء، التي تقلد بعضها مناصب عليا في بلدانهم، وقد ساعد ذلك دول المنطقة على الحفاظ على علاقات متميّزة مع الدول الإفريقية وعلى مواجهة محاولات «إسرائيل» الهادفة إلى بسط نفوذها في القارة السمراء.
وتعمل تركيا من جانبها على توظيف القوة الناعمة لجامعاتها من أجل إعادة تمركزها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد شرعت الجامعات التركية خلال السنوات الماضية في استقبال العديد من الطلاب العرب في مختلف التخصصات. ومن الواضح بالنسبة لأنقرة أن الدور الجيوسياسي لجامعاتها يساعدها الآن على المحافظة على نشاطها السياسي الهادف إلى دعم مشروع الإسلام السياسي في المنطقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"