السياسة “اللغز” ليست سياسة

05:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

قد لا يكون متأخراً القول إن منظومة مجلس التعاون الخليجي بحاجة ماسّة الآن، إلى إعادة النظر في استراتيجياتها (مجتمعة ومنفردة ربما، تجاه أحداث مفصلية ومتغيرات تتتالى سيرورتها، وتتفاقم تداعياتها، وتجاه قوى سياسية وأيديولوجية، أثبتت عقمها عملياً في فضاءات الفكر وتدبير الحكم من ناحية، وخصوبتها في إنتاج تديّن هائج منتقم، يٌزكّي التعصب ويولِّد العنف من ناحية أخرى .

لا عيب في إعادة النظر في السياسات والاستراتيجيات، بل من الحكمة التأمل في أحوال الإقليم والأمة، ومراجعةٌ دورية للخريطة الاستراتيجية والجماعية، وبخاصة أن مشروع الاتحاد متعثر، ومساعي توحيد السياسات الخارجية، تجاه قضايا ساخنة راهنة، وصلت بصمت إلى طريق مسدود .

لقد حمت هذه المنظومة الإقليمية العربية تكتلها طوال ثلاثة عقود، وصمدت أمام أربع حروب كبرى في الإقليم، ودفعت ومازالت فواتير حسابات باهظة، بعضها يحمل نوعاً من الابتزاز يضغط على مواردها أكثر من اللازم .

إن الرياح التي تهب في هذه الأزمنة، قويّة ومدمّرة، وتتشابك في مجمل الصراعات الراهنة قوى العقائد والمذاهب والمصالح والسلاح والمال والنفوذ والمنافسة والإعلام، وتتحرك كل الأطراف بعصبية واندفاع، في ظل حالة قلق على موازين بالغة الدقة والحساسية .

ليس بخافٍ على أحد، أننا الآن أمام ربيع عربي تتساقط أوراقه على الأرض، لتُنبت ربيعات جديدة، لا يعلم إلا الله طبيعتها ومآلاتها، كما أن اختيارات الشعوب العربية، صارت بحاجة إلى مراجعة، بعد أن ثبت لها أن مشكلات حياتها وهويتها تحتاج إلى عناصر مختلفة، غير الوعظ والوعد بالجنة، فضلاً عن إدراكها صعوبةَ وعسر وتيرة التغيير، واكتشافها طبيعةَ ثقافة الاستبداد الشرقي المتجذّرة في النظم والسلطات والتربويات والأحزاب والقوى السياسية، بما فيها الإسلامية والمدنية، وفي غياب بنية تاريخية نقديّة مستنيرة .

لعل منظومة مجلس التعاون الخليجي، تدرك يقيناً الآن، مدى براغماتية الغرب، ودهاء دبلوماسية صيد الفرص (إيران)، وميكيافيلية التيارات الإسلامية السياسية التي رعاها واحتضنها لأكثر من نصف قرن بعض أعضاء المنظومة الخليجية، ومنها من يواصل تعاطفه ودعمه حتى الآن، رغم كل المرارات التي أفرزتها هذه التيارات في حوض الخليج وهضابٍ وكهوفٍ في آسيا وإفريقيا، وليس آخرها ما نشاهده في مصر وليبيا وصحراء الجزائر وسوريا واليمن والعراق وغيرها .

في دروس العلاقات الخليجية مع تيارات الإسلام السياسي، ما يستحق التوقف للدرس والتحليل، وإعادة النظر بجرأة، خاصة ونحن أمام أحداث زلزالية ضخمة، تسير بخطوط متعرّجة، وأحياناً مباغتة، فضلاً عن أنه من غير المؤكد أن موجات التطرّف والغلوّ سوف تهدأ، وحيث لم يثمر حتى الآن، خطاب الاعتدال والوسطية في التخفيف من غُلواء التشدّد والانغلاق الذي تتبناه تنظيمات (تجيد المداهنة) حوّلت الدين إلى أيديولوجيا، وأعطت الأولوية للسياسي المصلحي، على العقدي والسلوكي .

من الضروري والحكمة في آن، مراجعة المواقف والسياسات منهجياً على مستوى منظومة التعاون، والمراجعة العاقلة والعارفة، أفضل كثيراً من السير في مدارات مغلقة، وعلى طريقة اللغز، لأن السياسة اللغز ليست سياسة، أمام أحداث ضخمة ومفصلية في تاريخنا . ومن الحصافة اعتماد مناورة الانسحاب، بشيء من الجسارة والحكمة، بتنسيق مع مجموع من منظومة التعاون، وبخاصة أن المنطقة العربية أمام حالة قلق على موازين بالغة الدقة والحساسية .

إنّ من أهم الدروس والعبر، الحذرَ من القياس على الماضي، لأن الماضي لا يتكرر دائماً بالوتيرة ذاتها .

نحتاج في منظومة التعاون إلى مراجعة نقدية جسورة، ونظرة هادئة وعميقة إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ، من غير عصبية ولا ارتباك، وبخاصة أن هذه المنظومة (مع تفاوت الدرجات وطمر درجة الاختلافات)، سارعت في السنوات الأخيرة إلى ملء الفراغ الذي تولّد عن انصراف معظم الدول العربية الفاعلة إلى مواجهة مشكلاتها الداخلية، كما سارعت ليكون لها دور رئيس في رسم الخريطة الإقليمية الجديدة، وانخرط أعضاء من هذه المنظومة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تداعيات الربيع العربي واستحقاقاته، إدراكاً منها بأنها ليست بمنأى عن تبعاته، وتأثيراته في معادلات القوى وميزانها، وبخاصة ما بين إيران ومنظومة التعاون الخليجي .

الآن، يتحدث كثيرون في الثانية الأخيرة من الدقيقة الأخيرة، عن مخاطر تفكيك سوريا، بعد أن أفاضوا في الماضي، في تبنّي أطروحة إعادة التوازن إلى المعادلة الميدانية في سوريا، والآن أيضاً، أدرك كثيرون أخيراً، مخاطر حركات إسلام سياسي، ابتذلت عن جهالة معنى الشرعية في النظم الديمقراطية، ومستعدة للموت في سبيل شرعية الكرسي، بعد أن تناست على مدى ثمانية عقود ما أسمته بشرعية (ما أنزل الله)، لكن من أسف، فإن البعض، ممّن تصدَّر صحافةً وفضائياتٍ معتبرةً في قلب منظومة التعاون الخليجي، وحتى مايو/أيار الماضي، ظل يسبّح بحمد حركة الإخوان (أمّ التيارات السياسية الإسلامية)، ويخبرنا في يوم 23 من مايو الماضي (جريدة الحياة جمال خاشقجي)، أن السعودية فتحت قلبها أخيراً للإخوان بهدف الوصول إلى الهدف الذي تسعى إليه السعودية والإخوان معاً .

ويقول إن الهدف هو إسقاط النظام السوري، وإعادة رسم شرق عربي جديد، يمتد من شط العرب حتى المتوسط، ويضيف التزم الإخوان بذلك في الاجتماعات التي جرت في جدة مؤخراً .

نحتاج إلى خريطة استراتيجية جديدة، فيها من التلاحم العربي الخليجي، والإصلاح السياسي، وثقافة التنمية الشاملة، ورفع الغطاء عن تيارات الإسلام السياسي، وفيها أيضاً من قوة الإلهام والتوجه إلى المستقبل، والتجديد الديني والثقافي، وإطلاق طاقات الشباب وأحلامهم التي مازالت تنام في الأقفاص، وفيها أيضاً رؤى جديدة لإدارة العلاقات في الإقليم، والحيلولة دون انكشاف أحد منها في أزمنة سقطت فيها قداسة الخرائط السياسية القديمة .

إعادة النظر وإدراك العبر، ممكنان وضروريان في آن .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"