السيسي والقضية الفلسطينية

02:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

عندما قامت ثورات الربيع العربي، كانت بعيدة في معظمها عن الشعارات المتصلة بالسياسة الخارجية، ولم نسمع وقتها أن ثوار تونس أو مصر أو ليبيا أو غيرها قد جعلوا القضية الفلسطينية واحدة من المطالب التي تهتف بها الجماهير، بل انصرفت كل تلك الثورات الشعبية إلى الواقع الداخلي، وركزت على غياب العدالة الاجتماعية وتفشي البطالة، وشيوع الفساد وعنف قبضة الاستبداد، ولقد لفتت هذه الملاحظة، تحديداً، نظر كثير من المتابعين والخبراء المهتمين بالشأن العربي في مجمله، وتساءل كثيرون إذا كان التيار الإسلامي أحد مكونات الشارع العربي، فلماذا غابت عنه القضية الفلسطينية، وهو الذي ظل يتحدث عنها منذ عام 1948، حتى وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة عام 2012، وتأكد لكثير من المراقبين أن القضية الفلسطينية كانت لهم فقط، مثل (قميص عثمان) يرتدونه حين يشاؤون ويخلعونه حين يريدون، وتوصل بعض الباحثين إلى نتيجة مؤداها أن الهموم الداخلية لكل قطر عربي غلبت على الهم القومي، وأصبحنا أمام وضع مختلف عن سنوات كانت فيها القضية الفلسطينية هي الهاجس الكبير الذي يسبق المشكلات الداخلية، ويلقي بظلاله على كل المواقف والسياسات.
بل إنني أتذكر أن أحد الاستقصاءات المتصلة بالرأي العام قد وجهت سؤالاً منذ عدة سنوات لعينات مختلفة من الشرائح الاجتماعية في مصر، حول المشكلة الأولى التي تؤرق الأسرة المصرية، وقد كانت دهشتنا بالغة في ذلك الوقت عندما وجدنا أن أكثر من 70% ممن أجابوا عن هذا السؤال، قالوا إنها القضية الفلسطينية التي ضحت من أجلها مصر، حرباً وسلاماً، لأكثر من سبعة عقود ودفعت بالشهداء والأموال، على اعتبار أن القضية الفلسطينية قضية مصرية أيضاً، وظلت تلك القضية شعاراً يتقدم سواه لعشرات السنين.
ولكن مفاجأة الربيع العربي هي تراجع زخم القضية الفلسطينية بحيث سبقتها شعارات المعاناة الداخلية والبحث عن رغيف الخبز والعدالة الاجتماعية والحرية، حتى كانت المفاجأة على لسان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، التي حاول بها إعطاء (قبلة الحياة) للقضية التي أصبحت شاحبة، وكأنها في حالة (كمون شتوي) بعد شهور الخريف العربي، حتى انصرفت عنها الأضواء وغابت المحاولات الجادة، لإحياء الأمل في استئناف مسيرة السلام في الشرق الأوسط، ووضع نهاية عادلة للنزاع العربي- «الإسرائيلي».
وعندما تحدث الرئيس السيسي عن تفكيره في السعي لإتمام المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، ثم المضي بعد ذلك في تحقيق التسوية الفلسطينية- «الإسرائيلية» وفقاً للثوابت المتفق عليها، تمسكاً بحدود 4 يونيو/حزيران، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس. عندما أعلن الرئيس المصري ذلك استقبلته الدوائر المختلفة بالاهتمام والترحيب على الجانبين الفلسطيني و«الإسرائيلي»، وزار القاهرة بعدها مباشرة وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، جون كيري، وأصبحت مبادرة الرئيس المصري هي حديث الدوائر الدبلوماسية في العواصم المعنية واختلفت حولها التفسيرات وكثرت التأويلات، خصوصاً أن أخبارها طغت على أخبار المبادرة الفرنسية التي سبقتها بأيام، ووقفت مصر موقفها المعتاد الذي يقوم على احترام سعي الآخرين نحو السلام، وأعلنت دعمها للمبادرة الفرنسية على اعتبار أن ما ذكره الرئيس السيسي يصب في خانة الهدف الواحد والغاية المشتركة، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن مصر بتكوينها الحضاري وتراثها التاريخي دولة تتفاعل في كل الأزمنة مع ما حولها، وتمارس دوراً إقليمياً مؤثراً، عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهي دولة فريدة في شخصيتها، ليست الأكثر ثراءً، ولكنها الأعرق وجوداً وحضارة، حيث ينظر إليها الجميع ويتطلعون إلى رأي القاهرة عند الأزمات والمشكلات والخلافات. والأمر في نظري أن قيمة الدولة، أي دولة، يكون بقدر تواجدها النشط، ودورها الفعّال في كل البؤر الساخنة، بل وفي علاقاتها الثنائية مع الأطراف الأخرى، لذلك جاءت دعوة السيسي الأخيرة، إحياءً لتلك الروح ولتكون رسالة مفتوحة للجميع مؤداها أن مصر لا تتخلى عن مسؤولياتها القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ثانياً: عندما تحدث الرئيس السيسي عن الدور المصري المنتظر في المصالحة الفلسطينية، وتسوية النزاع العربي- «الإسرائيلي»، أدركت أن الخيال السياسي الذي غاب طويلًا عن ساحة العمل الوطني قد أطل من جديد ليحيي الدور المصري، وليقول للجميع إن مكانة مصر ليست معطى تاريخياً أصم، ولكنها تفاعل حيوي عبر العصور، يعطي لمصر مكانتها ويضعها في المكان اللائق بها.
ثالثًا: إن تصريح الرئيس السيسي محاولة ذكية لكسر الحلقة الشريرة التي تحيط بمصر وإشارة إلى الذين يحاولون تطويق مصر من كل اتجاه، فإنهم يحرثون في البحر، وأن مصر ماضية في طريقها معتزة بذاتها مستقرة في أعماقها، وهي أيضًا رسالة لمن يستثمرون ظروف مصر الداخلية، حتى يدركوا أن مصر عصية على الوقوع، رافضة للانكفاء، وأنها قادرة على أخذ زمام المبادرة إذا أرادت، ومتصدرة للمشهد إذا شاءت.
رابعًا: إن الموقف المصري الجديد، حتى وإن لم تظهر له نتائج سريعة، هو رسالة إلى واشنطن وحلفائها بأن مصر تستطيع كسر الحلقة التي يحاولون تطويقها بها.
خامسًا: لقد رأى كثير من المراقبين في تصريحات الرئيس السيسي تدعيماً لمكانته، وتعزيزاً لقيادته، بعد مضي عامين من وصوله إلى المنصب الأول في البلاد، ورأوا فيه أيضاً استعداداً للخروج إلى مسرح الأحداث العربية، بشرف وكبرياء، حتى يدرك الجميع أن مصر لا يعزلها أحد مهما تكالب الأعداء، وتكاثر حولها الخصوم وتضخمت أمامها الأحقاد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"