الشعر في زمن الجائحة

03:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
حافظ البرغوثي

الشعر بوصلة تحدد الاتجاهات الصحيحة، ويتفاعل مع محيطه مهما كان الوضع قاسياً

اختفت الاحتفالات بمناسبات عزيزة تحت وطأة جائحة فيروس «كورونا» المستجد، منها يوم المرأة العالمي، وعيد الأم، وعيد الشجرة، وأخيراً وليس آخراً اليوم العالمي للشعر. وقد ظهر على التلفزيون الإيطالي بعض الشعراء الذين تفاعلوا مع الكارثة التي ألمّت ببلادهم أكثر من غيرها وقالوا شعراً حزيناً بالمناسبة.

وكان الشعراء العرب أسهبوا في وصف الطاعون قديماً، خاصة في منتصف القرن الرابع عشر. وأستذكر هنا فقرة من قصيدة الشاعر المعاصر بدر شاكر السياب التي يتحدث فيها عن مرضه بذات الرئة وينتظر الموت، وكأنه يصف حال المصاب بفيروس «كورونا» حيث قال:

الداءُ يثلجُ راحَتَيَّ ويُطفئُ الغدَ في خيالي

ويشلّ أنفاسي ويُطلقها كأنفاسِ الذبالِ

تهتزّ في رئتينِ يرقصُ فيهما شبحُ الزوالِ

مشدوتينِ إلى ظلامِ القبرِ بالدمِ والسعالِ

فالشعر هنا حزين منقبض الحروف جنائزي الموسيقى ينضح آهاتٍ وأسىً.

لا مكان لإلقاء الشعر في زمن المصائب الكبرى هكذا عرفنا، لكن الشعر بوصلة تحدد الاتجاهات الصحيحة، ويتفاعل مع محيطه مهما كان الوضع قاسياً. ولعل الاحتفال باليوم العالمي للشعر انبثق لدى منظمة اليونيسكو من المأساة الفلسطينية، فبعد الاحتفاء بمهرجان ربيع الثقافة الفلسطينية لمدة أسبوعين سنة 1997 في فرنسا بمشاركة ثلاثة شعراء فلسطينيين عالميين هم: فدوى طوقان، ومحمود درويش، وعزالدين المناصرة، وجه الشعراء الثلاثة نداء إلى مدير العام لليونيسكو يومها فيديريكو مايور بعنوان (الشعر شغف الإنسانية - الشعر بوصلة العالم) طالبوا فيه ب «ضرورة تسمية يوم عالمي خاص بالشعر». وفي عام 1998 تابع مثقفون مغاربة في (اللجنة الوطنية المغربية) تنفيذ الفكرة الفلسطينية؛ حيث قدموا طلباً مماثلاً، حتى صدر القرار عام 1999. وبهذا تكون فكرة اليوم العالمي للشعر فلسطينية الأصل مغربية المتابعة.

ما عسى الشاعر أن يقول في مواجهة الجائحة؟ لقد قالها شعراء عرب في مناسبات سابقة عندما ضرب الطاعون وما سمي بالموت الجارف بقاع الأرض في منتصف القرن الرابع عشر، وها هو ابن الوردي يقول شعراً في تلك المناسبة، حتى قيل إنه تحدى الطاعون ومات به. ولكن الواقع أن ابن الوردي الذي انفرد بين الشعراء بالكتابة شعراً عن الطاعون انفرد أيضاً بكتابة رسالة في الوباء، ووصف الأوضاع ومسار الوباء من الشرق إلى الغرب، وتفقد أحوال المدن وما كانت عليه من أوضاع، وما قام به سكانها إزاء الجائحة من احتياطات وأطعمة وأشربة، بلغة سلسة يغلب عليها الجناس والمحسنات البديعية. وهو الوباء نفسه الذي كتب عنه في الأندلس الشاعر والفيلسوف والطبيب لسان الدين بن الخطيب صاحب الموشح الشهير «جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همى.. يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ»، وكتب مؤلفاً في مقنعة السائل عن المرض الهائل وفي التاريخ نفسه. وقد تناول ابن الخطيب أيضاً المرض طبيّاً، ووصف كيفية التعاطي معه وحرق حاجيات المرضى والموتى المصابين، وتطهير أمكنتهم بالكحول وهو السائد حالياً، بينما اكتفى ابن الوردي بالتركيز على الحجر الصحي، بوصف انتشار المرض والمدائن التي وصلها، ووصف كيفية تعاطي الناس معه، وكيف غيروا أطعمتهم وأشربتهم وفقاً لذلك، وأكثروا من البخور والطيب والكافور لتطهير منازلهم، كما أكثروا من قراءة كتب الطب الغامضة لعلهم يجدون علاجاً، وهو الدارج حالياً؛ حيث يلجأ العلماء والجهلاء على حد سواء إلى نبش الكتب والأبحاث والتاريخ بحثاً عن وصفات طبية، وتجد آلافاً من الوصفات يومياً.. والذين أرجعوا الوباء إلى فساد الهواء ردّ عليهم بأن فساد النفوس أقسى، معبراً عن ذلك شعراً بقوله:

قالوا: فسادُ الدواءِ يُردِي فقلتُ: يُردِي هوى الفسادِ

كمْ سيّئاتٍ وكمْ خطايا نادَى عليكمْ بها المنادِي

وذكر في قصيدة أخرى كيف أن الناس تراجعوا عن السيئات بسبب الطاعون، فقال يصف أحوال حلب:

فهذا يوصِّي بأولادِه وهذا يودّعُ جيرانَهُ

وهذا يصالحُ أعداءَه وهذا يلاطفُ إخوانَهُ

هذا يغيِّرُ أخلاقَهُ وهذا يعيِّر ميزانَهُ

وأسهب ابن الوردي في الحديث عن جشع التجار وأصحاب الجنائز ومغالاتهم في أسعار نقل وتكفين ودفن الموتى، وكأنهم ينطقون بلسان حفار القبور في قصيدة السياب، ولسان حالهم يقول: هيَ منةُ الموتَى علي.. فكيفَ أشفقُ بالأنامِ

وفي النهاية نتمنى نهاية سريعة لجائحة الكورونا، عافانا الله منها، وأعادنا إلى إنسانيتنا المفقودة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"