الشمال والجنوب في زمن مختلف

03:12 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

الصور التي خرجت من مؤتمر القمة الأوروبية العربية قالت الكثير. قالت أكثر مما قاله رؤساء وأعضاء الوفود والمعلقون والمؤثرون من صانعي الرأي والمتطفلين عليهم. صور أمن المؤتمر؛ أمن القادة والمشاركين من أعضاء الوفود، وأمن القاعات وأمن الإعلاميات والإعلاميين، أمن مداخل المدينة ووسائل الاتصال، كل هذه الصور وغيرها قالت كثيراً عن الإرهاب؛ موضوع المؤتمر والشغل الشاغل للقادة المشاركين والغائبين وموظفيهم، والأجهزة المكلفة بحماية المسؤولين والمؤسسات في كل الدول المشاركة في المؤتمر، والنسبة الغالبة في المجتمع الدولي عموماً.
أهمية الصور ليست فقط فيما قالته وتقوله، ولكن أيضاً فيما لم تقله أو لم تُفلح في التعبير عنه بالقوة اللازمة، والفهم الصحيح. عرضت الصور لقاعة هائلة لا أذكر أنني رأيت قاعة مؤتمرات بهذا الاتساع. يُفاجأ الناظر في الصورة، فتتعدد أمامه الاحتمالات والتفسيرات على نحو أتخيّله كالتالي:
أولاً: هذا الفراغ الرهيب الذي يتوسط القاعة يعكس في ذهن المراقب مسألتين في وقت واحد. بداية يعكس القناعة السائدة في دوائر العصف الفكري، ومراكز البحوث، ومجالس الشؤون الخارجية، بأن النظام الدولي في حالته الراهنة يفتقر إلى قيادة تملأ هذا الفراغ، سواء كانت هذه القيادة دولة عظمى واحدة، أو توازناً بين عدد من الدول العظمى. إن استمرار الفراغ على هذا النحو، كما ظهر في الصورة، يعني أن طرفي هذا المؤتمر، وأطراف مؤتمرات أخرى، وآخرها مؤتمر ميونيخ للأمن، لا شك يجدون صعوبة في تسوية القضايا الشائكة في علاقات الدول. قضايا كثيرة لن يجري حسمها، وستبقى عنصراً سلبياً ومؤثراً في مناخ العلاقات الدولية.
ثانياً: كشفت الصور المأخوذة خلسة، أن الدول الأعضاء في كل مجموعة ينقصها الوفاق والاتفاق. جاء بعضها يحمل على أكتاف زعمائه أعباء مشاكل لا علاقة لها بالقضايا المطروحة على هذا المؤتمر. المثال البارز بقسوة، جسدته سلوكيات الوفد البريطاني ورئاسة الاتحاد الأوروبي.
بدا واضحاً أن أزمة «بريكست» قد تجاوزت حدود طاقة احتمال المفاوضين، وفي الوقت نفسه تسببت في أن يكشف الاتحاد الأوروبي عن حالة ضعف تعتريه، وقد تعيش معه طويلاً، إذا لم يحل بسرعة، الأزمة ويمحو تداعياتها، خاصة في دول هشة ومترددة كما في شرق ووسط أوروبا.
ثالثاً: قرأت في الصور أن دولاً عديدة مشاركة في المؤتمر، لم تُفلح في إخفاء نوازع التشرذم والخلاف، سواء في داخل مجموعتها أم في علاقاتها بدول في المجموعة الأخرى. العرب جاؤوا مختلفين على مسائل عديدة، وإن اتفقوا على إخفاء عدم اتفاقهم على مسائل أخرى لعلمهم بأن الأوروبيين لن يسامحوهم لو أثاروا قضية خلافية بعينها. مثلاً ما كان يمكن أن تقبل أوروبا أن تظهر ضعيفة في موقفها الرافض للسياسة الأمريكية، تجاه اتفاقية إيران النووية.
رأينا أيضاً آثار الشقاق الداخلي على وجوه الفرنسيين والإيطاليين. لم ندرك في سنوات أوج العولمة وصعود أفكار الوحدة الأوروبية، وبدء صعود الصين، وعودة روسيا، أن الاستعمار الأوروبي سيحشد قواه ويستعد لغزو إفريقيا مرة أخرى، وتثبيت مواقع له فيها أحياناً تحت شعار مكافحة الإرهاب، قبل أن يستقر المستعمرون الجدد.
السباق على إفريقيا تجدد بالفعل، ومنذ اللحظة الأولى غرس الوقيعة بين دول أوروبية أعضاء في مشروع الوحدة الأوروبية، وبين الدول العربية الحريصة على أن تلعب ورقة الاستعمار، مستخدمة ورقة الدين وأوراق المال، مستعينة بشركات مرتزقة أجنبية.
دخلت أيضاً «إسرائيل» مهرولة، ودول إقليمية أخرى. لا أحد من بين كل هؤلاء مستعد لأن يتساهل في حقه، في أن يشترك في عملية نهب جديدة للقارة السوداء. رأينا الحليفتين المتجاورين الشريكين في تأسيس مشروع أوروبا الموحدة؛ إيطاليا وفرنسا، مشتبكتين في نزاع حاد للإجابة عن السؤال: من يمتلك ليبيا؟.
رابعاً: توقفت طويلاً أمام ملاحظات أبداها أكثر من مفاوض مشارك في أعمال هذا المؤتمر، حول ضرورة مراعاة كل طرف للثقافة الشعبية للطرف الآخر. لا شك في أن الاختلافات التفصيلية كثيرة بين الثقافتين الأوروبية والعربية، ولكن صحيح أيضاً أنه في أقاليم عديدة في أوروبا توجد ثقافات محلية جداً تؤثر في نتائج الانتخابات، وتظهر في نمو الحركات المتطرفة وطنياً أو قومياً أو أيديولوجياً، وبعضها يعطل اطراد عملية التنمية عموماً، والسياسية خصوصاً.
تابعت الأسبوع الماضي بدرجة من الانبهار المختلط بالسخرية، خلاف إيطاليا وفرنسا على من منهما يحق لها الاحتفال بمرور خمسمئة عام على وفاة ليوناردو دافنشي.
انتهت مشاهدتي لصور وخرجت بانطباعات ستجد ما يفندها أو يؤكدها، فيما سأقرأه من انطباعات غيري. أما انطباعاتي فأهمها.
أولاً: أن الفجوة بين التقدم والتخلف في عالم اليوم صارت أكثر اتساعاً، من الفجوة التي كانت يوم بدأت أهتم بالسياسة الدولية وأفكار التحديث.
ثانياً: أننا في إفريقيا مقبلون على حالة جديدة من «السعار الاستعماري»، حالة تندرج فيها دول صغيرة كانت هي نفسها إلى عهد قريب جديد مستعمرات أو أقاليم تعرضت للنهب الاستعماري.
ثالثاً: تعود أو لعلها بقيت وإن مستترة فكرة أو حكمة «رسالة الرجل الأبيض»، تعود لتوجه أحياناً أو لتبرر في أحيان أخرى، التدخل الأوروبي في شؤون الدول السمراء. هل بيننا من ينكر الحال التي آل إليها العراق الشقيق على يد الاحتلال الأمريكي وطلائعه من السياسيين العراقيين، أو الأحوال في بلاد أخرى عربية وإفريقية، وفي أمريكا اللاتينية تتعرض حالياً لتدخلات من أنواع شتى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"