العقلانية والحرية والعدالة

01:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

لو كان لا بد من الإشارة إلى أهم ثلاثة جوانب في الثقافة العربية، والتي تحتاج إلى الاتفاق على تعريفها، والمرجعية الرئيسية التي تنطلق منها، وأهم مكوناتها وأهدافها، والنتائج التي ستنتج جراء ممارستها في الواقع العربي.. فإنني شخصياً سأشير إلى الجوانب الثلاثة الآتية: العقلانية والعدالة والحرية.
لا توجد كلمات يكثر اللغط من حولها وتكثر الانقسامات حول مفاهيمها أكثر من هذه الكلمات. ولم تستطع القرون ولا الألوف من الكتب التي كتبها المئات من المفكرين عبر تلك القرون تكوين تيارات مجتمعية مهيمنة ونافذة تأخذ أغلبية العرب بفهمها لتلك التعابير، وبالتالي يتبنى أغلب العرب الثقافة التي تضم تلك التعابير الثلاثة.
ومن هنا يأتي عدم تجذر تلك التعابير في الثقافة العربية، ما يجعلها ثقافة قابلة للاختراق والتلاعب بها وادعاء البعض بعدم قابليتها للتعايش مع الحداثة ومع متطلبات عصرنا الذي نعيش.
أبرز ما في هذه الكلمات الثلاث هو ترابطها واعتماد تواجد كل منها على تواجد الآخرين. فالعقلانية لا يمكن أن تمارس في مجتمع لا تقوم فيه الحياة على حرية العقيدة والتفكير والبحث. والحرية تحتاج إلى العقلانية والعدالة لمنع إمكانات شططها وانقلابها إلى عبث ضار بالإنسان والمجتمع. والعدالة تظل تطبيقاتها ناقصة في مجتمعات لا تمارس العقلانية ولا تعيش أجواء الحرية.
لو نقلنا موضوعنا إلى الواقع العربي لرأينا كيف أن غياب واحد من الجوانب الثلاثة في أية لحظة تاريخية قد قاد إلى الكثير من الإخفاقات وحتى الفواجع.
فمثلاً، لقد توفرت فجأة مساحات كبيرة من الحرية السياسية والاجتماعية في بداية الحراكات الناجحة للربيع العربي في العديد من الأقطار العربية. لكن عدم تجذر مفاهيم وممارسات العقلانية والعدالة في حياة شعوب ومجتمعات تلك الأقطار قاد لارتكاب الكثير من الأخطاء والخطايا في ممارسة الحرية التي توفرت آنذاك.
والأمر نفسه حكم ما جرى من حراكات شعبية ضد الاستبداد والفساد في ليبيا وسوريا واليمن، على سبيل المثال، إذ غاب التوازن وغابت الضوابط فيما بين الحرية المنتزعة وبين ممارسة العقلانية والعدالة والإنصاف. وها نحن نعيش إلى يومنا هذا نتائج ذلك الغياب المطلوب في الثقافة السياسية العربية.
وقد وصلت تلك الفاجعة في خلل الموازين إلى القيمة في الأراضي التي غزتها وحكمتها القوى الجهادية التكفيرية، إذ غاب وجود أي من الجوانب الثلاثة إلى ممارسة إسلام بعيد كل البعد عن الرسالة الإلهية التي نزلت على نبي الإسلام ، صلى الله عليه وسلم.
وحتى في الواقع الفكري السياسي العربي تظهر فدح غياب فهم مجتمعي مشترك لتلك المفاهيم الثلاثة. فاللغط حول موضوعي الشوري والديمقراطية وحول موضوعي الرأسمالية والاشتراكية وحول الخلافات المذهبية وحول مكانة وحرية المرأة، هذا اللغط سيظل معنا لقرون أخرى طالما أن تلك الجوانب لم يحسم أمرها في العقل الفردي وفي العقل الجمعي.
ما يوجع القلب هو أن ما يسود الحياة العربية هو ممارسة عكس تلك التعابير الثلاث. فالذي يسود هو اللاعقلانية والعبودية وأشكال لا حصر لها من المظالم.
من أجل إصلاح الثقافة العربية، وعلى الأخص السياسية منها. أصبح لزاماً بناء فهم مجتمعي مشترك، وإلى حد معقول، حول المرجعية الأساسية لتلك الجوانب الثلاثة، حول مكوناتها وأهدافها الإنسانية، حول ضرورات توازنها عند التطبيق وحول النتائج التراكمية المنتظرة.
ولعل مؤسسات المجتمع المدني السياسية والثقافية والاقتصادية العربية تدرك بأن الحديث عن الديمقراطية وعن التنمية الاقتصادية وعن ولوج عصر العلوم والتكنولوجيا، بل وحتى عن وحدة الأمة السياسية، سيكون حديثاً مملوءاً بالثغرات وإمكانات الانتكاسات ما لم يواز تلك الأحاديث وجود المحاولة التي نتحدث عنها.
وتوجد أسئلة كثيرة في ذهن الإنسان العربي حول تلك الكلمات الثلاث، وهي تحتاج إلى إجابات معقولة شبه متفق عليها، وذلك قبل أن تصبح مفاهيم تلك الكلمات جزءاً أساسياً من ثقافته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"