القذافي حصد ما زرع

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

مقتل أب وثلاثة من أبنائه الشبان في غضون أشهر وفي ظروف متشابهة . هذا خبر يتعلق بمأساة عائلية، يسمعه سامع أو يقرأه قارئ فيشعر بانقباض وأسى، فالبشر يفقدون إنسانيتهم إذا فقدوا الإحساس بغيرهم . غير أن الصريع معمر القذافي حرم غيره من الشعور بالتعاطف معه، ومع أفراد أسرته الشبان الثلاثة الصرعى وهؤلاء راشدون مدركون لسلوكهم .

عاش القذافي حياة أباطرة، وتنعّم أبناؤه معه بحياة بذخ سفيه، فيما كان الزهد هو الخطاب المعلن للعقيد الذي جعل ستة ملايين ليبي يعيشون تحت زهد قسري، في بلد تتدفق فيه الثروة النفطية بلا توقف . وأرفق ذلك بتتفيه فكرة الدولة والمؤسسات والإدارات، فعاش شعبه على مدى أربعة عقود في ظل كيان لا تحكمه قوانين، ولا تنتظمه مؤسسات قادرة، وقد تبيّن كيف أن اختراع اللجان الشعبية بديلاً من السلطة التنفيذية والبرلمان والقضاء كان مجرد نكتة سمجة . . فقد تبخرت تلك اللجان المزعومة ما إن انتفض الشعب على الحاكم بأمره . وأرفق ذلك كله بالعسف والتنكيل ومطاردة معارضيه في جهات الأرض الأربع . كتب كاتب ليبي هو الروائي أحمد إبراهيم الفقيه ، إن القذافي لم يكن يتردد في استهداف معارضيه من أبناء شعبه في الداخل والخارج، وهو واثق أن ضجة لن تضج ضد هذه الجرائم بالذات، فيما كان استهدافه لغير الليبيين محاطاً بمحاذير جمة ويثير حين يقع ضجة كبيرة، كما الحال في استهداف الإمام موسى الصدر ورفيقيه، ذلك أن شعبه كان مكمّم الأفواه وتحت طائلة التصفية الثورية في سجن أبوسليم أو في غيره من الأقبية، وقد جعل الرجل من بلاده سجناً كبيراً مغلقاً، كي ينعم هو وأفراد أسرته براحة البال خلف أسوار العزيزية .

لم تكن الصور التي تم بثها ابتداء من ظهيرة الخميس الماضي لمقتل الزعيم ثم مصرع ابنه معتصم (قبل ذلك تعرض للقتل سيف العرب وخميس)، لتثير بحد ذاتها الإعجاب . كان المرء يتمنى لو تم أسره ومداواته ومحاكمته، وكذلك الأمر مع ابنه الشاب . غير أن المرء لم يفاجأ كبير مفاجأة بما حدث . فقد أرسى الرجل على امتداد أزيد من أربعة عقود، تقاليد العنف والاحتكام إلى القوة العارية والهزء بالقضاء وازدراء العدالة، فكان أن حصد ما زرعه . حكم بالسيف والهذيان، ومات بالسيف والاقتصاص . لقد طلبت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة التحقيق في ملابسات وفاة الرجل، وليس هذا الطلب بغريب عن هيئة دولية عليا مولجة بحقوق الإنسان . ربما يشكل هذا الطلب تحدياً لصدقية السلطة الجديدة المؤقتة في طرابلس . غير أنه تحدٍ ذهبي ويفترض أن يكون مرغوباً به . فقد تم استهداف الرجل في ظروف قتالية رغم أنه لم يبد مقاومة . وأية محاكمة مفترضة ستشكل فرصة لفتح صفحات في الملف الأسود للرجل الذي جعل من أفراد أسرته ما يشبه حكومة صغيرة تدير البلاد على هواها، وتتصرف بالثروة الوطنية كما في كرامات الأفراد والجماعات كأملاك شخصية وعائلية . وقد ارتضوا ذلك وانساقوا إليه وباتوا شركاء فيه، ورسموا بذلك مساراً انتهى بهم إلى ما انتهوا إليه . على هذا النحو تم تطبيق كتابه الأخضر الذي لم يكن النوم يداعب جفون مؤلفه، قبل أن تقرأ حارسات فقرات منه على مسامعه . أين ذهبت أسطورة الحارسات الأربعمئة؟ لقد تبدّدت وتلاشت، كما تنهار ديكورات فيلم ما إن ينتهي تصويره .

عاش الكثيرون من غير الليبيين وهم يتبادلون ما بينهم الطرائف عن سلوك الرجل وتفوهاته . أما الليبيون فلم تتسن لهم مثل هذه التسرية عن النفس، ليس لأن الطرائف لم تكن تصلهم، بل لأنهم ظلوا ينوءون تحت الوجه الآخر للمهازل وهو العسف بحقهم، والتضييق عليهم وعزلهم عزلاً تاماً عن العالم الخارجي، وحرمانهم من موارد الحياة وأسبابها، فالرجل ظل مقيماً على كراهية المدينة والمدنية كما ينبئ ذلك كتابه القصصي القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء، بيد أنه منح نفسه وعشيره العائلي الصغير، فرصة التمتع بثمرات الحياة العصرية مستخدماً الخيمة واجهة لزهد مزعوم ، فيما أرغم سواد الليبيين إنفاذاً لهذيانه الخاص، على أن يعيشوا حياة سابقة على نشوء المدن، وما هو أقسى من ذلك . . من فوضى متعمّدة وخواء مؤسساتي وهزال إداري واهتراء خدماتي .

والآن، ذهب القذافي كما يذهب الانقلابيون والطغاة في كل مكان، خاصة في شرقنا السعيد . المأمول والواجب ألا يرث الحاكمون الجدد القذافية أو بعضاً منها . لقد رأينا في العراق كيف تمت استعادة الإرث السلطاني لحاكم العراق السابق على أيدي ضحايا ذلك الحاكم، الأمل ألا يتكرر شيء من هذا في بلد عمر المختار، وأن تسود روح المصالحة وواقع التعددية وبناء دولة القانون ، ونبذ العنف باعتباره سرطاناً يفتك بالمجتمعات والكيانات .

أما بقية الطغاة العرب الذين ينبثق الحق والصواب من حركاتهم وسكناتهم، والذين يخوضون في دماء شعوبهم ليلاً ونهاراً بلا خجل أو وجل، فيتمنى المرء لهم مصيراً أفضل من مصير القذافي، ليس حباً بهؤلاء، وإنما للحفاظ على صورة العرب أمام أنفسهم قبل الآخرين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"