القرن الآسيوي بدأ

02:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة *
لا يمكن لأحد أن يستهين بقارة كبيرة تحتوي على 53 دولة و5 مليارات شخص وثلثي المدن الكبرى في العالم وتشكل ثلث الاقتصاد العالمي وثلثي معدلات النمو.

الأوضاع الاقتصادية العالمية تتغير بسرعة. إذا كان الغرب وتحديداً الولايات المتحدة يسيطرون اليوم على الاقتصاد العالمي، فالمستقبل لن يكون كذلك. في الماضي البعيد كانت الدول الآسيوية تسيطر على الاقتصاد العالمي، لكن بعد الحروب المتعددة انتهاء بالحربين العالميتين الأولى والثانية سيطر الغرب وما زال. في الماضي البعيد وقبل الثورة الصناعية كانت الصين والهند واليابان تسيطر عملياً على الاقتصاد العالمي. بعد الثورة الصناعية انقلبت الأوضاع لصالح الغرب. أما اليوم فالعودة إلى آسيا واضحة مع تزايد النفوذ الصيني وصعود الهند وبقاء اليابان قوة مهمة. قال نابليون عن تنبؤ وحق «فلتبق الصين نائمة لأنها عندما تستفيق سيهتز العالم».

بعد الحرب العالمية الثانية وبسبب الخسائر الكبرى التي تكبدتها أوروبا واليابان، سيطرت الولايات المتحدة بشكل قوي وواضح على الاقتصاد العالمي. فالأمريكيون عبر منظمة حلف شمال الأطلسي والمؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد سيطروا حقاً على واقع وتطور الاقتصاد الدولي. كانت الحرب الباردة التي انتهت بزوال الاتحاد السوفييتي وتحول الدول الشرقية إلى النظام الاقتصادي الحر. ضاعف هذا الواقع من سيطرة الولايات المتحدة ليس فقط على الدول الغربية وإنما على كافة الدول في كل القارات. التغير الكبير الذي حصل لاحقاً هو اعتداء 11-9-2001 وحرب العراق والأزمة المالية العالمية في 2007-2008 وما نتج عنها من تغيرات كبرى أهمها انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. كما يقول جو بايدن المنافس المحتمل له في 2020، إذا بقي ترامب رئيساً لسنوات أربع إضافية، سيغير روح وخصائص وركائز وثقافة المجتمع الأمريكي. في كل حال، يبقى خيار إعادة انتخابه أو عدمه حقاً فريداً للأمريكيين بالرغم من تأثيره على كل دول العالم.

هنالك مشكلة اليوم واضحة في الاقتصادات الغربية تجعل المواطنين قلقين، مما ينعكس ضعفاً في ثقة الشعب بالحكام. ما يجري في فرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول يدل بوضوح على تذمر المواطنين من الحكام وعلى عدم رضاهم عن الأداء المتبع. تعاني اليوم الاقتصادات الغربية مشاكل عدة أنتجت انتخاب ترامب والتصويت للبريكسيت وفوز الأحزاب المتطرفة في انتخابات عدة كما تدفع الناس غضباً إلى الشارع. تعاني الاقتصادات الغربية من ارتفاع الدين العام وارتفاع فجوة الدخل والثروة كما من الانقسام السياسي الحاد المبني على انقسام كبير في الثقافة تجاه الأقليات والمهاجرين بشكل خاص.

لا يمكن لأحد أن يستهين بقارة كبيرة تحتوي على 53 دولة و5 مليارات شخص وثلثي المدن الكبرى في العالم وتشكل ثلث الاقتصاد العالمي وثلثي معدلات النمو. تحتوي آسيا على 30 من أكبر مئة شركة عالمية و6 من أكبر 10 مصارف و8 من أكبر 10 جيوش في العالم. تحتوي آسيا على 5 قوى نووية بينها كوريا الشمالية. تنتج الدول الآسيوية عدداً كبيراً من الاكتشافات العلمية وتحتوي على عدد كبير من الجامعات الجديدة المميزة. لا شك أن آسيا منوعة جداً وتتعاون دولها بهدوء وجدية لتغير العالم واقتصاده معها. لا يمكن اختصار آسيا بالصين كما يحصل أحيانا؛ إذ إن الصين تحتوي فقط على 1,5 مليار من ال 5 مليارات شخص. لا يمكن إلغاء دور الهند واليابان في تغيير الاقتصاد العالمي ليس فقط بالقواعد والقوانين وإنما أيضاً بالثقافة والعلوم والآداب.

لا شك أن القرن الآسيوي قد بدأ ويجب أن نتحضر جميعاً له. في مايو 2017، تجمع في بكين ممثلون عن 68 دولة يشكلون ثلثا سكان العالم ونصف الناتج المحلي العالمي لهدف تطوير الاقتصادات ورفع مستوى العلاقات والتضامن فيما بينها. عصر الحرير الجديد هو أهم مشروع دبلوماسي في هذا القرن ومن الصعب جداً تجاوزه في الحجم والتوسع والتأثير على اقتصاديات كبيرة ومتعددة عبر العالم.

ما هي التغيرات السياسية الاقتصادية الأساسية التي حصلت في العقود القليلة الماضية والتي تنعكس اليوم في ظهور قوى جديدة على الساحة العالمية أهمها آسيوية؟

أولاً: سقوط الاتحاد السوفييتي وظهور روسيا كوريث أساسي لكن ليس بالقوة والنفوذ نفسهما. تحاول روسيا ملء الفراغ السوفييتي، لكن سوء تنوع الاقتصاد وحجم السكان ونموه الضعيف يمنعانها من النجاح في هذا الهدف.

ثانياً: ظهور الوحدة الأوروبية قوية عبر الاتفاقيات المتعددة التي أبرمتها منها اتفاقية شينجين لفتح الحدود واتفاقية ماستريخت التي خلقت منطقة اليورو. الوحدة الأوروبية هي أهم مشروع سياسي اقتصادي منذ مئة سنة وإن كان يعاني اليوم مشاكل عدة. عبقرية خلق الوحدة الأوروبية لا يمكن أن يستهان بها. المشروع الثاني في الأهمية هي منطقة شمال أمريكا للتجارة الحرة بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك والتي عدل اتفاقيتها ترامب لكنها ما زالت تعيش على القديم حتى تصديق الاتفاقية الجديدة نهائياً والتي هي نسخة شبه كاملة عن الاتفاقية الحالية.

ثالثاً: صعود الصين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وغيره. فالصين ليست قوية في عسكرها فقط وإنما في نموها ودقة حساباتها على المدى البعيد خاصة. فالتروي في اتخاذ القرارات خاصة في العلاقات التجارية الدولية ومع أمريكا تحديداً يشير إلى النضج السياسي والإداري الحاصل ضمن الحكم الصيني.

رابعاً: التغيرات الكبيرة في العالم ليست سياسية فقط وإنما أيضاً اقتصادية وفي مصادر الطاقة خاصة. ما زال الاتكال على النفط والغاز والفحم كبيراً عالمياً إلا أن الطاقات الجديدة تزدهر أيضاً وفي مقدّمها الشمسية والمائية والهوائية وغيرها. لا شك أن العالم الغربي يعلق أهمية كبيرة على النفط الصخري التي تبرز فيه الولايات المتحدة خاصة ويجعلها تحلم عبره بالاستقلال عن الأوبيك وبالتالي تؤمّن حاجاتها النفطية من الداخل فقط. تغيرات مصادر الطاقة كبيرة جداً وتنعكس على تكلفة الإنتاج وعلى هيكلية التجارة الدولية في كل السلع والخدمات.

خامساً: ظهور النظام الآسيوي الجديد وليس الصيني فقط. آسيا هي أهم قارة اليوم وستزداد قوة. لذا من الخطأ أن تعادي أمريكا الصين وآسيا سياسياً قبل أي شيء آخر. أمريكا تحتاج إلى آسيا في كل المجالات اليوم أكثر من أي وقت مضى. تحتاج إليها في التجارة والاستثمارات والاستهلاك. لا يمكن للشركات الأمريكية أن تزدهر من دون السوق الآسيوية. ترامب يسير اليوم عكس المنطق والمصلحة. «أمريكا أولاً» لا يعني البعد عن آسيا؛ بل ربما الاستفادة من نموها أكثر.

نعيش اليوم في عالم متعدد القوى والنفوذ. سينعكس هذا الواقع أكثر فأكثر على التعليم والثقافة والتجارة والاستثمارات. يتعاون العالم الغربي كثيراً مع دول آسيا لكن العلاقات الشعبية ما زالت خجولة وبدائية بسبب التاريخ والثقافة والدين واللغات. لا رجوع إلى الوراء بالنسبة لآسيا ودورها وهنالك صفحة جديدة من التاريخ تفتح اليوم ولن تقفل بسرعة ومن الضروري التأقلم معها لمنع الخسائر وربما تحديد حجمها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"