الليبرالية العربية الغائبة

05:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

كشفت السنوات الماضية، في بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، أن مطالب الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي قد تحوّلت عن مسارها، بل إلى نقيضها، بفعل عوامل داخلية وخارجية في الوقت نفسه، كما غابت لغة الحوار والتفاوض، وحلّت مكانها لغة العنف والعنف المضاد، وانزلق الحراك الشعبي إلى مواقع مضادة للمطالب الأولى التي رفعتها فئات اجتماعية متنوعة، في الوقت الذي لم توفر فيه بعض الأنظمة ما امتلكته عبر عقود من فائض القوة لتواجه فيه الحراك الشعبي، وفي خضم هذا السياق، بدت القوى الليبرالية غائبة كلياً عن المشهد، وفي أفضل الأحوال غير مؤثرة في مجريات الأحداث.
لقد أسهمت الليبرالية الغربية، ابتداءً من عصر التنوير، في صياغة قيم الحق والمساواة في الدساتير والمجتمعات، كما أرست عبر نضال ممثليها، من نخب اقتصادية ومفكرين وأحزاب، دعائم الديمقراطية، ونبذ العنف من العمل السياسي، وكان لها دور فاعل في إرساء قواعد راسخة في العمل السياسي، تضمن حرية الاختلاف، وتداول السلطة، وتعزز من مكانة الأفراد في الشأن العام، وبغض النظر عن التحولات التي عرفتها الليبرالية لاحقاً، إلا أنها أدّت وظائف تاريخية أساسية، ولا تزال، في استقرار الدول الغربية ومجتمعاتها.
لم يشهد عالمنا العربي تطوراً اجتماعياً طبيعياً، بل عانى من لحظات قطيعة كبرى مع تراكمات المجتمع والسياسة، فمعظم الدول العربية، شهدت تشكّل نويات ليبرالية، خلال فترات الانتدابات، وأسهمت تلك النويّات في حركات الاستقلال نفسها، وكان لها دور في صياغة الدساتير الأولى في بعض الدول العربية، وقد زاوجت الليبرالية العربية - في ذلك الوقت - بين موقعها الاقتصادي المتقدم على باقي الفئات الاجتماعية ووعي بعض نخبها التي تعلّمت في دول أوروبية عدّة، بالإضافة إلى ما امتلكته من خبرات سياسية، لكن تلك النويّات تمّ استبعادها من المشهد السياسي لاحقاً، مع مرحلة الانقلابات القومية، لمصلحة نخب عسكرية وإيديولوجية، لم تكن على صلة مباشرة بمقومات الإنتاج.
رأت النخب القومية، في مصر وسوريا والعراق، منذ خمسينات القرن الماضي، أن النخب الليبرالية تشكّل خطراً عليها، واتهمتها بالرجعية والعمالة للغرب، وصادرت أملاكها ضمن خطط التأميم، ودفعت بأبرز رجالاتها إما للانكفاء أو مغادرة البلاد، وعوضاً عن تلك الليبرالية نشأت طبقة من الأثرياء الحزبيين والعسكريين والأمنيين المتحالفين مع الطبقة التجارية المحافظة، وحلّ نمط اقتصادي يعتمد بشكّل أساسي على الريع، والذي لم يمنح مسألة توطين الصناعات أي أهمية في برامجه، وتحوّلت الدولة من كونها أداة تنفيذية في خدمة الصالح العام إلى جهاز بيروقراطي في خدمة السلطة السياسية، ومجالاً للتكسّب الريعي، القائم على قيم الولاء والمحسوبية.
وفي ظروف الحرب الباردة، ساد العالم العربي صراع إيديولوجي، لا علاقة له بشكل وطيد بضرورات وطنية، وكان الخاسر الأكبر هو الواقع الاقتصادي والاجتماعي، مع ازدياد التبعية للخارج، حيث أصبح الهمّ الأكبر للسلطات السياسية هو اكتساب شرعية أحد طرفي القطبية العالمية، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، من أجل ترسيخ مكانتها وديمومتها في الحكم، مع إغلاق الفضاء العام في مستوياته كافة في وجه أي حراك شعبي أو فئوي، وقد استمرّت تلك الحال بعد انتهاء الحرب الباردة، بل أصبحت بعض السلطات العربية أكثر شراسة في تعاملها مع مطالب التغيير، وأكثر وضوحاً في تعزيز قيم المحسوبية والولاء.
في ظل غياب الليبرالية العربية، من نخب وحركات سياسية ومدنية، كان من الطبيعي، في لحظة المأزق التاريخي، الذي مثّله ما يسمى «الربيع العربي»، أن تكون المواجهة محصورة بين الفئات المهمشة، من دون مشروع سياسي واضح، وبين سلطات سياسية مستعدة لممارسة كل أشكال العنف للحفاظ على مكاسبها التاريخية، وكان من الطبيعي أيضاً في ظل هذه الحالة أن يكون من السهل الانزلاق نحو المواجهة العنيفة، وأن تدخل قوى خارجية على خط الصراع الوطني.
ولقد ثبت، في بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، أن الطبقة التجارية التقليدية والمحافظة، وقفت إلى جانب السلطات السياسية، على الرغم من انزلاقها خارج القيم الوطنية، وأنها لم تستوعب التحوّل التاريخي وضروراته، فهي في جذرها بعيدة عن قيم الليبرالية، حتى في المجال الاقتصادي، فهي راكمت ثرواتها على ضوء تحالفها مع النخب الحاكمة، وليس في مناخات المنافسة الحرّة، من إنتاج وأسواق وأفكار.
الليبرالية العربية التي بإمكانها تجاوز مأزق التأخر العربي ليست متبلورة في الواقع الراهن، لكن من دون فتح الأفق أمام تبلورها، سيكون من الصعب تفادي انزلاق دول أخرى نحو دوامات العنف في المستقبل بين سلطات قائمة على الريع والمحسوبية وفئات اجتماعية لم يتح لها أن تبلور مشروعها السياسي للتغيير، أو قيادات يمكن أن تشكّل البديل الموضوعي لما هو قائم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"