المثقفون والأزهر

02:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

استن الإمام «الطيب» شيخ «الأزهر» سنّة حميدة بعقد جلسات عصف ذهني موسعة تحت مظلة «الأزهر الشريف» يُدعى إليها مثقفون ومفكرون وأدباء وعلماء ويتصدرها أساتذة «الأزهر الشريف» وعمداء كلياته الشرعية وذلك امتداداً لدوره الآخر في إنشاء «بيت العائلة» والإنجازات التي تحققت من خلاله.

وتعتبر هذه الجلسات بمثابة «جلسات استماع» يستمع فيها الإمام الأكبر وعلماء «الأزهر» إلى وجهات النظر في القضايا المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد حققت هذه اللقاءات نجاحات ملموسة تمثلت في «وثائق الأزهر الشريف» التي صدرت وتصدر برعاية وإشراف الإمام الأكبر، ويهمني هنا أن أشير إلى الملاحظات التالية:
* أولاً: لم يكن الأزهر مجرد مركز ديني كبير فقط ولكنه تجاوز ذلك عبر تاريخه الطويل لكي يكون قلعة وطنية ومدرسة شاملة في تطوير الحياة المدنية وتنمية المجتمع، إذ يرجع الفضل في النهوض بالريف المصري إلى علماء «الأزهر الشريف» المنتشرين في القرى والكفور والنجوع حيث تعتبر «خطبة الجمعة» هي المصدر الرئيسي لثقافة المواطن البسيط، كما لعب «الأزهر» دوراً آخر له أهمية خاصة في تاريخ مصر الحديث، وأعني به ترقية الآداب والفنون فخرجت منه قوافل الشعراء والأدباء والكتاب كما خرجت منه أيضاً قوافل الفنانين بدءاً من الشيخ «سلامة حجازي» مروراً بالشيخ «سيد درويش» وصولاً إلى الشيخ «زكريا أحمد» والشيخ «سيد مكاوي» وهذه نقطة تحسب للأزهر الشريف من حيث إسهامه الكبير في جميع مجالات الحياة..

لذلك فهو يمثل في التاريخ المصري قاطرة للتقدم على مدى أكثر من ألف عام، ولم يقف «الأزهر» عند هذا الحد بل كان مورداً للسياسيين أيضاً، فما أكثر من بدأوا حياتهم فيه خصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وما أكثر المفكرين والمبدعين والساسة الذين «جاوروا» في الأزهر ونهلوا من علومه ودرسوا على يد شيوخه الكبار.

* ثانياً: كان الأزهر ملاذ التيارات الوطنية والقوى السياسية خصوصاً في العصر الحديث، فهو الذي وقف أمام ظلم «العثمانيين» وعسف «المماليك» وجبروت «الفرنساوية» وعدوان «نابليون» وخلفائه فضلاً عن مواجهة الأزهر لكل الغزاة والطغاة والبغاة، فكان حائط سدّ منيع في مواجهة الظلام، ولكن جاء عليه حين من الدهر ضعف تأثيره وخارت قواه بفعل الانهيار الشامل في الدولة المصرية خلال مراحل مختلفة من تاريخها أو نتيجة ظهور حاكم مستبد يكمم الأفواه ويغلق نوافذ الحرية، وعندئذ يلجأ الأزهر إلى «التخندق» في موضعه حتى تنقشع الغمة، ولقد اهتمت أسرة «محمد علي» بالأزهر الشريف وحاولت استخدامه لاكتساب مزيد من الشرعية.

ولن ننسى أن علماء الأزهر هم من نصّبوا «محمد علي» والياً على مصر عام 1805، كما أن الأزهر كان داعماً في البداية «للحركة العرابية»، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بإعادة تنظيم الأزهر الشريف وأدخل عليه الكليات الحديثة التي جعلت جامعة الأزهر أهم من «الجامع» ذاته، كما أقام عبد الناصر إذاعة «القرآن الكريم» وهو الذي كان يأمل في تربية جيل من الدعاة الذين يجيدون علوم الدنيا والدين ويدعمون سياساته في الدوائر الإفريقية والعربية والإسلامية.

وعندما جاء الرئيس السادات قام بتعديل الوضع «البروتوكولي» لشيخ الأزهر ليجعله بدرجة نائب رئيس وزراء وذلك بعد زيارة قام بها شيخ الأزهر الراحل «الإمام الفحام» إلى الجزائر حيث لَفت الرئيس بومدين نظر الحكومة المصرية إلى ضرورة تعديل وضع الإمام الأكبر في السّلم الهرمي للدولة المصرية حتى تحسن الدول الأخرى استقباله.

وجدير بالذكر أن أممية الأزهر قد جاءت ذات يوم بشيخ تونسي الجنسية جزائري الأصل هو الشيخ الخضر حسين والذي اختاره الرئيس عبد الناصر شيخاً للأزهر متجاوزًا زملاءه من المصريين إيماناً بوحدة العالم الإسلامي وعالمية الأزهر، وقد كان لدينا «عالم سوداني» شغل منصب وكيل الأزهر، و«عالم شامي» شغل منصب عميد كلية الشريعة، ومن هنا تأتي أهمية ذلك المركز الإسلامي الفريد الذي لا نظير له.
* ثالثاً: لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عمّا يسمى «تجديد الخطاب الديني» وأنا أميل إلى رأي الروائي الكبير جمال الغيطاني من أن التسمية الأدق هي «إصلاح الخطاب الديني» في إطار منظومة إصلاح شامل تنهض بالعقل المسلم وتخرج به من «ظلمات الخرافة» و«غياهب التردي» في آراء فقهية مدسوسة وتوجهات دخيلة على سماحة الإسلام وعظمة ذلك الدين الحنيف، ولا شك أن منظومة الإصلاح سوف تأخذ في مضمونها ردّ الاعتبار لروح التسامح التي جاء بها الإسلام لتجرف أمامها كل خزعبلات التطرف ودوافع التعصب وأسباب التدهور التي وضعت الإسلام في مواجهة مفتعلة مع روح العصر وأفكاره وأدت إلى شن حرب غير مقدسة تسعى لتشويه الإسلام وتصويره وكأنه يعادي الحريات ويحتضن التعصب بل ويشجع على الإرهاب، إننا أمام حالة تحتاج إلى مواجهة حاسمة وليس لغير الأزهر أن يقودها بحكم تاريخه وحاضره ومكانته.
* رابعاً: إن مثل هذه اللقاءات التي يترأسها الإمام الأكبر بحضور مجموعة متنوعة الثقافة متعددة الخبرة تؤدي إلى انصهار فكري في بوتقة إسلامية وطنية، وإذا كنا نرى أن «التجديد العقلي» هو الطريق لإصلاح الخطاب الديني فإننا نظن أن تنقية مجمل «الفقة الإسلامي» مما شابه من أفكار دخيلة وروايات مدسوسة خصوصاً في القرن الثالث الهجري عندما تداخلت الأمصار واندمج «العجم» في «العرب» وتعددت الأهواء واختلفت المشارب، إنها عملية ضرورية ندعو إليها على أن يقوم بها علماء تقاة لديهم احترام مطلق للنص القرآني والأحاديث المؤكدة مع إعمال «فقه الأولويات» في حياتنا خصوصاً أن الإسلام يرى «أننا أعلم بأمور دنيانا».

* خامساً: إن أسلوب الموعظة الهادئة وأهمية تغيير الخطاب الأسبوعي في «صلاة الجمعة» أمر له أهميته لأن تلك الخطبة الأسبوعية هي مصدر ثقافة البسطاء ولها تأثير عميق لدى شعب تزيد فيه الأميّة على ثلث سكانه، كما أن الخطاب الزاعق ولغة الوعيد المخيف واستخدام عبارات منفرة هذه كلها ليست من الإسلام في شيء وهو دين يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويفضل الترغيب على الترهيب ويحترم العقل الإنساني ويراعي مقتضيات الحال ويقبل ما تجمع عليه الأمة لأن الأمة لا تجمع على ضلال.

هذه رؤية تيار من المثقفين لدور الأزهر الشريف وشيخه الجليل في مواجهة عالم يموج بالقلاقل ويعاني «الإرهاب» وتدور فيه حرب غير مقدسة ضد الإسلام يشارك فيها مسلمون وغير مسلمين، ولكن يبقى الأزهر الشريف حصناً منيعاً لحماية صحيح الإسلام إلى يوم الدين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"