المجمع العلمي المصري.. الأيقونة

01:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي
إن مصر هي الوريث الطبيعي لتراث عصري النهضة الإسلامية والأوروبية، فقد جرى على أرضها تزاوج تاريخي بين ثقافتين كبيرتين الأولى هي نتاج لتراكم حضاري فرعوني، يوناني، روماني، قبطي، ثم عربي إسلامي، والثانية هي غربية مسيحية عبرت إليها من بحيرة الحضارات ونعني بها البحر الأبيض المتوسط، فأضحت مصر بحق مجمعاً تاريخياً لحضارات مستقرة وثقافات وافدة. وفي ظني أن (المجمع العلمي المصري) القابع على استحياء في أحد أركان ميدان التحرير بالقاهرة هو أيقونة عبر الزمن ربما لم ندرك قيمتها ولم نحسن توظيفها ولم نعِ جيداً ما ترمز إليه في تاريخنا الثقافي وتراثنا الإنساني.
فالمجمع العلمي المصري الذي أنشأه نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر هو خير شاهد على تطور الدولة المصرية الحديثة التي جاءها المخاض مع طلقات مدفعية الغازي الفرنسي القادم ببوارجه الحربية ولكنه كان يحمل أيضاً ولحسن الحظ بوادر الصحوة ودواء الإفاقة من العصور الوسطي للدخول في عصرنا الحالي، فقد جاءت حملة بونابرت إلى مصر حاملة بذور النهضة الغربية التي غرستها في تربتنا الشرقية فأنبتت دولة عصرية حديثة مهدت لوصول محمد علي إلى كرسي السلطة في سياق نعرفه جميعاً لتطور الحكم والحاكم على النحو الذي شهدناه دائماً.
لقد كان الفيلسوف المصري الراحل د. فؤاد زكي موفقاً توفيقاً كبيراً عندما عقد مقارنة في مقاله الشهير (دهاء التاريخ) بين حملة بونابرت الفرنسية على مصر وحملة عبد الناصر المصرية على اليمن. فقد ارتدى كلاهما مسوح التحضر ورفع رايات النهضة للخروج من غياهب العصور الوسطى إلى إرهاصات العصر الحديث.
إنني إذ أكتب اليوم عن المجمع العلمي المصري فلكي أقول إننا يجب أن ننظر إليه نظرة جديدة خصوصاً بعد أن استهدفه الفوضويون بحريق إجرامي في محاولة لطمس معالم نهضة مصر الحديثة والعدوان على كنوزه من أمهات الكتب وآلاف الوثائق ومئات الخرائط لعلهم يقطعون حبال التواصل النهضوي في إحدى أهم نقاطه، وسوف تظل تلك الجريمة النكراء واحدة من أخطر وأخبث الجرائم التي احتمت في الحركة الشعبية عبر تاريخنا الحديث! لقد أرادوا أن يطفئوا نور ذلك المجمع العريق ولكن شاءت عناية الله وإرادة المصريين والعرب الشرفاء أن يظل مضيئاً كعهده، وهنا نتذكر دور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الذي كان له إسهام كبير ومؤثر في تخفيف آثار جريمة العدوان على ذلك المجمع الخالد، ولعلي استأذن القارئ في أن أطرح الملاحظات التالية:
أولاً: إن حفاظنا على التراث الذي نملكه لا يبدو في كل الأحوال مبشراً أو مشجعاً، فما أكثر ما فرطنا فيه من آثار منقوشة أو وثائق مكتوبة بفعل الجهل أو الإهمال بل والتهريب أحياناً، كما أننا لا ندرك كثيراً القيمة الحقيقية لما بين أيدينا من كنوز فنتعامل معها أحياناً بعبث ظاهر وتجاهل متعمد، ويكفي أن نتذكر أن السطو على آثار مصر الفرعونية ومصر الإسلامية قد جاوز حدود الاحتمال ولعل آخرها تلك السرقات المتتالية لمنابر المساجد العريقة ومصابيح الضوء المتمثلة في مجموعات المشكاة التي جرى خطفها من مسجد الرفاعي في وضح النهار أو الأبواب التاريخية للمواقع القديمة والأسبلة التاريخية، ناهيك عن الإهمال الذي يزحف على تلك الآثار المحشورة في زحام مصر الفاطمية والتي تحول بعضها إلى محال ومقاهي برغم جهود الدولة في مواجهة ذلك. ولعلي أشيد هنا تحديداً بما فعله وزير الثقافة الأسبق ورئيس هيئة آثارها من تجديد وصيانة لشارع المعز الذي يبدو بغير جدال واحداً من أهم الشوارع الأثرية في العالم بل هو بكل المعايير متحف للزمان والمكان.

ثانياً: إننا لا نقدر جيداً قيمة ومكانة المجمع العلمي المصري الذي توافدت على رئاسته كوكبة رائعة من عظماء تاريخنا الحديث ورغم جهود رئيسه الحالي وأمينه العام الدائم وهو جغرافي مرموق، إلا أن المجمع لم يحتل مكانته التي يستحقها ولم يلعب دوره الذي ينتظره، وقد قيل لي إن الأمر يحتاج إلى قانون خاص يصدر عن مجلس النواب بحيث يملك المجمع الفريد آليات للعمل التنويري والثقافي مستقطباً أجيالاً جديدة من أبناء هذا الوطن، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى تضافر جهود علماء مصر في كافة المجالات، وقد تكون خبرة عالم كبير مثل إسماعيل سراج الدين إسهاماً في تحديد ملامح مستقبل ذلك المجمع العلمي العريق.
ثالثاً: إن المجمع العلمي المصري يرتبط في ذاكرتي دائماً بكتاب (وصف مصر) وهو أهم كتاب في تاريخنا الحديث، وقد أهدى د.بطرس بطرس غالي نسخة أصلية كاملة منه لمكتبة الإسكندرية كما أهدى لها نسخة شبه كاملة منه د.يوسف والي أحد رواد الزراعة في تاريخنا الحديث، وأتذكر أنني عندما توليت إدارة المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية عام 1993 أن عهد لي الوزير بشؤون مكتبة الوزارة وضمها إلى المعهد وعكفت أنا وزملائي شهوراً في تنظيمها وتنسيقها وإنقاذ المتبقي من كتبها، وقد وجدنا نسخة من كتاب (وصف مصر) وقد نزعت بعض صفحاته من قراء لا ضمير لهم أو خلق، وشعرت وقتها بأن الحفاظ على التراث هو التمهيد الضروري لصياغة المستقبل، ولعلنا تابعنا مؤخراً العرض القيم لمذكرات نابليون ومراسلاته في مصر والتي تحدث عنها الكاتب الكبير صلاح منتصر في محاضرته مؤخراً بالمجمع.
إننا أمام كنز تاريخي وثروة فكرية وصرح شامخ ومؤسسة فريدة للتراث المصري تحتاج إلى كل جهد صادق ونية خالصة وعزم أكيد مع خبرة متراكمة ورؤية شاملة واقتناع كامل بالدور الحضاري للكنانة المتألق دائماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"