المحنة الثقافية التاريخية والصراع الطائفي

05:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
من بين إشكاليات المجتمعات العربية والإسلامية الكبرى تبرز إشكالية الصًّراعات الدينية والمذهبية المتطرفة كأحد أخطر الإشكاليات وأفجعها وأعقدها . ذلك أنها ظاهرة مركًّبة تجمع في أسبابها ومكوناتها السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والدين . ولذلك تكثر وتتضارب من حولها الأقاويل .
غير أن هناك جوانب مفصلية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التعامل مع هذه الظاهرة .
أولاً- في قلب هذه الظاهرة تكمن مشكلة ثقافية - تاريخية لعبت دوراً كبيراً في إيصالنا إلى الوضع المأساوي الذي نعيشه اليوم . ذلك أن وراء تلك الصراعات سلوكات التعصب والتطرف .
فالمتعصب المتطرف هو الذي انغلق عقله أمام كل حوار مع الآخر بحيث يرفض الأخذ والعطاء والحلول الوسط . من الضروري أن نعي بأن بناء هذا العقل المنغلق المتعصب قد بدأ بعد سقوط أكبر وأهم مدرسة في العقلانية، ونعني بها مدرسة المعتزلة الفقهية الجامعة بين الدين والفلسفة، المعلية لشأن العقل في فهم الدين .
على أثر ذلك دخل العقل المسلم في سلسلة من المدارس والشخصيات الفقهية المعلية لشأن المحافظة والتشدد والتزمت بدءاً بالتشدد الفكري داخل المدرستين الحنبلية والأشعرية، مروراً بالموقف العدائي للفلسفة من قبل الإمام الغزالي في كتابه الشهير "تهافت الفلسفة" والإمام ابن تيمية في قوله المشهور: "من تمنطق فقد تزندق"، وانتهاء بمدارس: جاهلية القرن العشرين من أمثال المرحومين سيد قطب ومحمد قطب .
والنتيجة كانت فقهاً متشدداً وأحياناً متزمتاً قاد إلى انغلاق العقل المسلم وتهيئته، في الأغلب من دون قصد، لممارسة سلوك العنف الجهادي التكفيري الذي انفلت من عقاله في طول وعرض بلدان العرب والمسلمين وأدخلنا في الجحيم الذي نعيشه يومياً وتدمي قلوبنا من جراء وحشيته وهمجيَّته .
هذه الثقافة لن تصلحها قرارات سياسية ولا ممارسات أمنية هي الأخرى عنفية، وإنما ستحتاج لمواجهتها إلى ثقافة فقهية مستنيرة عقلانية ترسخ وتنشر مقاصد الدًّين الكبرى بما يرضي العدالة الإلهية ويستجيب لحاجات الإنسان المتطورة المتغيرة عبر العصور .
ثانياً- عبر التاريخ استعملت الفروقات والخلافات الدينية والمذهبية في ساحات ألعاب السياسة، وذلك من أجل ترجيح كفًّة هذه الجماعة أو إضعاف تلك .
إذاً فما نلمسه في مجتمعاتنا العربية حالياً من استغلال انتهازي سياسي عبثي للانقسامات الدينية والمذهبية هو استمرار للظاهرة في تاريخنا العربي والإسلامي . لكنه استغلال متطرف إلى أبعد الحدود في انتهازيته، من أجل مصالح داخلية أو إقليمية أو دولية ومن أجل لعبة التوازنات التي تتبدًّل وتتغيًّر كما تفعل الحرباء .
وعندما يتم الاستغلال من خلال مال وفير وأسلحة فتًّاكة وتنسيق مع الأغراب من صهاينة وأعداء تاريخيين للأمة، فإن ما حدث في التاريخ يصبح مضاعفاً في الحاضر وخطراً هائلاً على المستقبل . فإذا أضيف إلى ذلك إعلام فاجر يشيطن ويمارس لعبة الإفناء المعنوي للآخر ويكذب ليل نهار فإن المسرح العربي يهيًّئ لكارثة مرعبة كبرى .
ثالثاً- قد تخفت هذه الظاهرة تحت ضربات ومذابح الطائرات بلا طيًّار أو اغتيالات قادتها من قبل مختلف مؤسسات الأمن التجسًّسيًّة أو بواسطة قوانين مكافحة الإرهاب الثأرية والجائرة أحياناً .
لكنها لن تموت إلا من خلال مواجهتين: الأولى هي المواجهة من خلال ثقافة فقهية عقلانية تفكُ أسار العقل المسلم من محنته التاريخية التي أوجزناها سابقاً . أما المواجهة الثانية فمن خلال انتقال المجتمعات العربية إلى نوع ومستوى معقولين من الممارسة الديمقراطية .
عند ذاك سيعلوا الولاء للمواطنة المتساوية على الولاءات الفرعية الدينية والطائفية والقبلية والعرقية . عند ذاك ستحل الحوارات الطائفية المنفتحة العقلانية محل الصراعات المتطرفة فيما بين عقول منغلقة على ذاتها وبالتالي غير متسامحة مع الآخرين .
المواجهتان تذهبان إلى أعماق الإشكالية فتعالجانها بتغييرات جذرية كبرى بدلاً من الاكتفاء بخطوات سياسية وأمنية هي في الأغلب عابثة وعبثيًّة ومؤقًّتة .

د . علي محمد فخرو

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"