المراجعة العادلة لعصر مضى

04:23 صباحا
قراءة 4 دقائق

التاريخ الصحيح جزء من الحقيقة الكاملة لا يمكن اختزاله أو إسقاط فترات منه أو المرور عليها مرور الكرام، فالتاريخ هو سجل الحياة وسبيكة الزمان والمكان، ولقد أقلقني كثيراً في الشهور الماضية أننا نخلط بين رفضنا لعصرٍ مضى وإنكارنا لوجوده . لذلك فإنني لم أسترح كثيراً لعملية طمس التاريخ ومحو بعض الأسماء منه، فأنا لا أختلف مع جمهرة الناس في أن الإسراف في وضع اسم الرئيس السابق وقرينته على الهيئات والمؤسسات والمدارس والمستشفيات كان أمراً ملحوظاً وممجوجاً، لكن تسمية بعض محطات المترو برؤساء مصر السابقين يبدو أمراً مختلفاً، فأنا مع إدانة الحقبة بالكامل، لكنني ضد إنكار وجودها وإسقاطها من مسيرة التاريخ، فالأمر يستوجب وقفة موضوعية نقارن فيها بين ما نفعله وما فعلته شعوب أخرى وهي تدين بعض زعاماتها المرفوضة وعهودها الفاسدة، إذ إن العبرة دائماً تكون بالتفرقة بين السرد الموضوعي للتاريخ والإنكار الأحمق لأحداثه، والآن دعنا نفصل ما نريد أن نذهب إليه:

* أولاً: إن من تقاليد الأمم والشعوب عندما تغضب على حكامها وتزيحهم من مواقعهم وتخلعهم من مناصبهم أنها قد تنتقم، فالثورة الفرنسية أعملت المقصلة لسنوات حتى عاش الفرنسيون في فوضى عارمة عقوداً عدة، انقسم فيها الثوار على أنفسهم وأعملوا التقتيل والذبح في ما بينهم، كما أن الثورة البلشفية التي أقامت الاتحاد السوفييتي السابق قد عرفت الإعدامات والتصفيات الجسدية بشكل غير مسبوق، حتى أن ستالين وحده معلقة في رقبته دماء الملايين، ولكن الملاحظ أن هذه الدول رغم قسوة ردود فعلها لم تنكر التاريخ وإن تنكرت له ولم تمح الحقب وإن أدانتها، لذلك فإن إزالة ثلاثين عاماً من ذاكرة المصريين هي تصرف بدائي مردوده سلبي على الوطن وأجياله المقبلة . فالأولى بنا أن نعترف بوجود تلك المرحلة بشرورها وأحداثها ومرها وحلوها . ولنتذكر أن الأمم المتحضرة ظلت تحتفظ بأسماء بعض رموزها حتى وإن أدانتهم وذهبت بهم إلى المقصلة . إن طريق كرومول الذي ثار على الملكية هو أطول شوارع لندن حيث يخترق العاصمة البريطانية من طريق المطار إلى وسط المدينة، ولقد عتبنا على ثورة يوليو 1952 أنها رفعت أسماء الشوارع والميادين في محاولة لمحو الحقبة الملكية ولكنها لم تفلح .

* ثانياً: إن زيارة قصيرة للكرملين في موسكو تظهر بجلاء كيف حافظ الروس على رموز عهد مضى، بحيث مازال العصر القيصري جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم الطويل وبقيت قصوره ومحتوياته سليمة، بل لقد عاد الروس مرة ثانية إلى اسم المدينة الرائعة بطرس بيرغ حيث يقف متحف الإرميتاج الفريد من نوعه وحذفوا اسم لينين غراد بعد عدة عقود، فالأمم لا تنكر ماضيها والشعوب لا تمحو تاريخها، ولكنها تقوم بعملية مراجعة عادلة لما له وما عليه، وقد تكون هناك عصور سوداء في تاريخ الدول ولكنها تظل جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، تستمد منها العبرة وتستخلص الدروس لتصلح الحاضر وتبني المستقبل .

* ثالثاً: إن العبث بالتاريخ هو مغامرة غير محسوبة، فالتاريخ قد يعيد نفسه ولكن بأساليب مختلفة وصور متعددة، لذلك فإن الأمم الواعية تحترم تاريخها الذي هو جزء لا يتجزأ من عمرها ونسيج وجودها مهما كانت مرارته ومهما زادت قسوته، ولقد كتب الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا مقالاً شهيراً ذات يوم بعنوان (دهاء التاريخ) ضمنه فلسفة التناقض عند محاولة فهم الأحداث، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من غشاوة على العقول والقلوب بحيث تصاب الشعوب بعمى الألوان فتسقط من مدى إبصارها كل ما هو حالك السواد، ولا ترى من ماضيها إلا أمجاداً زائفة تتغنى بها صباح مساء، هنا يكمن الخطر، فإلغاء الألقاب ونزع صفحات من كتب التاريخ وتحطيم النصب التذكارية وتغيير أسماء الشوارع إلا في حدود معينة، هي أمور شكلية لا تخفى على الوطني الواعي، مع تسليمنا في الوقت ذاته بأن أنانية بعض الحكام وحجم النفاق الهائل لهم قد جعلهما يضعون أسماءهم في كل مكان، كأنما تصوروا أنهم خالدون، بينما الخلود لله وحده .

* رابعاً: إن عصر مبارك هو عصر الرؤية الغائبة والفكرة الضائعة والضباب في كل مكان، ومع ذلك فلا بد من دراسته دراسة أمينة تتسم بالموضوعية والقدرة على التأمل المحايد لمعرفة حجم الأخطاء والفرص الضائعة والكوارث القابعة حتى يستنير الناس في مستقبلهم بما افتقدوه في ماضيهم، فالشعوب لا يبنيها النفاق ولا الرياء ولا المواربة ولكن تبنيها المصداقية والوضوح والقدرة على تحديد الأهداف .

* خامساً: إننا نسلم بأن العقود الثلاثة الماضية تمثل تجريفاً كاسحاً لقدرات الوطن وموارده طبيعية وبشرية، كما أنها كانت تقويضاً واضحاً للشخصية المصرية والهوية القومية فخرج منها المصريون في حالة تشرذم غير مسبوق، وانفلات غير معهود، وإحساس بأنهم كانوا في غيبوبة تحت وطأة النظام السابق وآلته الأمنية التي كانت قوية في الظاهر، ولكنها كانت مجردة من المنطق الوطني والولاء لفكرة تسعى نحوها أو مبدأ تعمل من أجله .

* سادساً: إنه رغم تسليمنا بكل ما مضى إلا أن التاريخ يبقى تاريخاً لأن هناك فارقاً بين النظرة الموضوعية والتقويم الأخلاقي لعهد معين، فالأولى مجردة والثاني نسبي يخضع للميول السياسية والأفكار والمعتقدات، ونحن نفضل أن نعتمد على العقل قبل القلب، وأن نستخدم مفاتيح التحليل السياسي العلمي بدلاً من الأقفال المغلقة للصناديق الفولاذية التي تحتوي على الأسرار والمواقف والأخبار وتمضي بها في زوايا النسيان، فلا الشعب تعلم ولا الأمة أدركت، إن هناك فارقاً كبيراً بين كراهية الأزمنة وإسقاطها، كما أن هناك اختلافاً بين رفض الأنظمة والخروج منها بعبر الزمان ورؤى المستقبل .

* سابعاً: إن وعي الشعب المصري بتاريخه الطويل وعمره العجوز قد جعله يرى في ماضيه عصوراً مظلمة، بل وقروناً من التخلف، ومع ذلك خرجت مصر في النهاية بقامتها العالية ومكانتها السامقة، فالنيل يجري والأهرام لا تشيخ، والتاريخ وحدة متكاملة لا تقبل التجزئة ولا تحتمل الإنكار ولا تمضي مع النسيان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"