المسلسل الانحداري في بلاد الرافدين

01:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

التطورات التي شهدها العراق خلال الأسبوع الماضي تقدم دليلاً إضافياً على فشل الدولة في هذا البلد . فالنظام يدفع نحو انشقاقات أهلية، ويوظف القوة في غير محلها، والقوى الأمنية باتت على درجة من التنازع، والحدود اختلطت بين القوات الخاصة والقوة الشرعية . لم يكن فض اعتصام الحويجة في منطقة كركوك بالقوة وما نجم عنه من ضحايا هو الأمر الوحيد المأساوي، فقد ترافق ذلك مع انشقاقات ذات منحى طائفي في مؤسسات أمنية، وتم الاقتحام رغم دعوات أغلبية القوى السياسية إلى عدم اللجوء إلى القوة، ومع ذلك تم الاقتحام ليصار بعدئذٍ إلى وصف الضحايا بأنهم شهداء من قبل الجهة نفسها التي أمرت بالاقتحام وأوقعت بالضحايا .

يغدو المشهد أكثر تعقيداً حينما تتنادى المرجعيات السنية والشيعية للتحذير من الاقتتال الأهلي وتوجيه نداءات حارة لوحدة الصف وتحريم سفك قطرة واحدة من الدماء، ورغم ذلك تتسع على الفور دائرة العنف، وتنال من رموز ومرافق دينية للجانبين، بما يدل بوضوح على أن الفاعلين مطلقو الأيدي ولا شيء يقيدهم، لا المؤسسات الأمنية القائمة ولا المراجع الروحية ولا القوى السياسية أو الاجتماعية . أما الحكومة فقد باتت ممزقة بعد استقالة ثلاثة وزراء وإجبار وزير رابع هو وزير الخارجية على أخذ إجازة! فيما البرلمان بلا سلطة تشريعية ورقابية ذات احترام من طرف السلطة التنفيذية، أما السلطة القضائية فأخبارها شبه غائبة .

من اللافت خلال ذلك، أن النشاط السياسي والمطلبي السلميين ممنوعان، فكل تحرك ولو احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي يوصم بأنه طائفي، وبأنه ستارة تخفي وراءها وجوداً مسلحاً، ما يستلزم استخدام القوة لفض الاحتجاجات قبل أن تتسع ويشتد أوارها . وكأن العنف هو اللغة الوحيدة القابلة للاستخدام من السلطة نحو الجمهور، ثم بين مكونات الجمهور نفسه . وهذا هو حال اعتصام الحويجة الذي جاء ذروةً لاحتجاجات سابقة شملت أغلبية المناطق والتجمعات بما فيها العاصمة بغداد، وحظيت بمباركة شتى ألوان الطيف السياسي والاجتماعي .

على هذا النحو يتحول العراق إلى مسرح للفشل والاستنزاف، فالدولة تستنكف عن القيام بدور وطني جامع، وتحول دون تماسك القوى الاجتماعية والسياسية وتكاد تمنع الوجود المستقل لهذه القوى تحت طائلة التخوين، وفي هذه الأجواء تشيع ثقافة التشكيك وتغيب المرجعيات الدستورية والعامة .

فمن الذي سمح بهذه الاختراقات والاصطفافات؟ ومن جعل الكيان الوطني رخواً إلى هذه الدرجة بعد انسحاب الوجود الأمريكي وتقلصه نهاية عام 2011؟ (شهد العام التالي: 2012 سقوط 4571 ضحية)، وأين يقع التقصير في ما هو بادٍ من غياب التحصين الداخلي واهتزاز الوحدة الوطنية حتى تمزق النسيج الاجتماعي؟

أما أسئلة الفساد وهدر الثروات (نصف الغاز المنتج والصالح لتوليد الطاقة الكهربائية يحترق في الجو)، فيغَصّ بها كل عراقي يعرف أن بلاده هي البلد الثالث في العالم إنتاجاً للنفط بعد السعودية وروسيا، لكن مستوى الحياة والخدمات الأساسية لا يرتفع كثيراً عن مستواه في دول آسيوية وإفريقية على حافة الفقر، ومؤشرات مكافحة الفساد الدولية تضع العراق خلال العامين المنصرمين في منزلة بين المركزين 113 و133 على مستوى العالم . فيما تشير إحصاءات دولية إلى أنه حتى نهاية العام ،2011 فإن طلبات اللجوء المقدمة من عراقيين قد ارتفعت الى أكثر من 23 ألف طلب . من دون احتساب الفترة اللاحقة على هذا التاريخ التي يتغذى فيها التدهور الأمني من التدهور السياسي والمؤسساتي الذي شهدته البلاد منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مارس/ آذار ،2010 التي تم فيها التلاعب المديد والمكشوف بالنتائج، فكان أن واصل رئيس الحكومة آنذاك نوري المالكي ترؤس الحكومة بعدما تم تفويزه على حساب قائمة العراقية مع تعويض رئيس هذه القائمة إياد علاوي بمنصب مستحدث هو رئيس مجلس السياسات، وهو المجلس الذي لم ير النور منذ ذاك وحتى تاريخه .

لم يكن الوضع السياسي قبل ذاك زاهياً مزدهراً، لكن محطة الانتخابات التي شهدت إقبالاً عالياً على الترشيح والاقتراع آنذاك، كانت تؤذن بانتقالة نوعية نحو مأسسة الحياة العامة وإرساء التداول السلمي للسلطة، غير أن السلطة التنفيذية أجهضت هذه النقلة، فواصل المالكي الحكم وكأن شيئاً لم يكن، وها هو يبدو الآن غير قابل للزحزحة عن موقعه لا بالحوار، ولا من خلال البرلمان، ولا بانتخابات لاحقة إذا قدر لها أن تجري في ظروف مواتية ووفق المعايير الدولية، فلا شيء يضمن عدم تكرار سابقة 2010 بالتلاعب بالنتائج .

علاوة على كل ما تقدم فإن الوضع الإقليمي ممثلاً على الخصوص بالأزمة السورية، ينشر ظلاله على الوضع في العراق، علماً أن تدهور الوضع فيه هو سابق على نشوء هذه الأزمة، لكن هناك من يتقنون، كما يبدو، الاستثمار في السلبيات فقط، إذ يمكن استخلاص دروس أفضل من الأزمة السورية في اتجاه تقوية المناعة الداخلية، بدلاً من المسارعة إلى استنساخ بعض جوانبها القاتمة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"