الممالك الرئاسية في أمريكا

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يحمل النظام السياسي الأمريكي مفارقات عديدة يصعب على الكثير من المحللين السياسيين الغربيين وبخاصة المنتمون منهم إلى الثقافة الأوروبية فهمها . لم يستطع مثلاً الرأي العام الأوروبي استيعاب فوز جورج بوش الابن على جون كيري سنة ،2004 في الوقت الذي حصل هذا الأخير على أغلبية أصوات الناخبين، بسبب تعقيدات النظام الانتخابي الأمريكي . كما لا يستطيع النظام الاجتماعي الأوروبي المبني على مفهوم العدالة الاجتماعية أن يتفهم دوافع الهجوم الكبير الذي شنه قسم كبير من المحافظين في الحزب الجمهوري على قانون نظام الرعاية الصحية المدعوم من طرف الرئيس باراك أوباما .
هناك من ناحية أخرى مفارقة كبيرة تسم السياسة الداخلية الأمريكية بميسمها، تتمثل من جهة في كون أن الأمريكيين لا يحبون كثيراً الملوك، ولكنهم ينجذبون، من جهة أخرى، بشكل غريب نحو الممالك السياسية التي ترمز لها العائلات السياسية التي ارتبطت بأسماء رؤساء أمريكيين سابقين بداية من عائلتي روزفلت وكينيدي وصولاً إلى عائلتي بوش وكلينتون . ومن غير المستبعد أن يجمع السباق الرئاسي المقبل، من أجل الظفر بمفاتيح البيت الأبيض، بين عائلتي كلينتون وبوش، أي بين "جيب بوش" و"هيلاري كلينتون" . من المؤكد في كل الأحوال أن خيبة أمل الأمريكيين تجاه سياسة أوباما الديمقراطي المنحدر من أصول إفريقية لا يمكن أن تسهم في مواجهة رياح التشدد اليميني، التي بدأت تعصف على الساحة السياسية الأمريكية من خلال تزايد نشاط أتباع "حزب الشاي" في المعسكر الجمهوري، وسيكون من الصعب إقناع الأمريكيين الذين ما زالوا متأثرين بالثقافة الذكورية، أن ينتخبوا امرأة كانت وزيرة للخارجية في ظل حكم رئيس "أسود" . كما أن الكوارث التي تسبب فيها بوش الابن على مستويي الاقتصاد المحلي والسياسة الخارجية الأمريكية في العراق وأفغانستان، ستمثل عوائق كبرى في وجه طموحات عائلة بوش، وتحديداً في وجه أحلام ابنها "جيب" من أجل الفوز بمنصب الرئاسة مرة أخرى .
ويمكن القول إن عودة هذا الثنائي الرئاسي الأمريكي إلى معترك المنافسة على أعلى منصب في الولايات المتحدة، تعطي انطباعاً بأن السياسة الداخلية الأمريكية تدور حول نفسها دورة كاملة لتقضم ذنبها بشكل معيب، وكأنها أضحت عاجزة عن إعادة إنجاب شخصيات سياسية من الطراز العالي تليق بسمعة وصورة أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ البشري .
لا يتعلق الأمر في كل الأحوال بالتساؤل عن الأصلح من العائلتين لحكم هذه الدولة - القارة، ولكنه بشكل أكبر بالتساؤل عن المصير الذي آل إليه مسار الديمقراطية والتعددية السياسية في أمريكا، بعد أن انتقل الأمريكيون من مرحلة الاختيار ما بين الثنائية الحزبية الضيقة التي يمثلها الجمهوريون والديمقراطيون، إلى مرحلة الاختيار ما بين عائلتين أمريكيتين، أي بين زوجة رئيس سابق وأخ وابن رئيسين سابقين، ويا له من خيار عبثي في منتهى الغرابة والابتذال .
ومن العجب العجاب أن تعرض أمريكا، التي دمرت الشرق الأوسط وأدخلت دولاً عربية كبيرة في فوضى عارمة وأقامت الدنيا ولم تقعدها من أجل نشر قيم الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية الواسعة والمفتوحة، على مواطنيها الاختيار ما بين مملكتين رئاسيتين بائدتين . سيوجد - بالتأكيد - من يدافع عن هذا النموذج بالقول إنه مختلف عن الجمهوريات الوراثية التي عرفتها بعض الدول العربية، وإن المنافسة الانتخابية تظل مفتوحة، وقرار الناخب الأمريكي هو الذي يحسم في نهاية المطاف السباق الانتخابي . ويمكننا الرد على ذلك بالقول إن الاختلاف هو في الأساس من حيث الشكل والطريقة والدرجة، انسجاماً مع اختلاف الثقافة السياسية، ويبقى الاختلاف من حيث الجوهر هزيلاً ولا يستحق - حسب زعمنا - أن يمثل نموذجاً معيارياً يمكننا البناء عليه، لأن التعددية السياسية يفترض أن تفتح مجال المشاركة السياسية على مصراعيه، أمام أكبر عدد من المواطنين الأمريكيين .
لا ريب أن النظام السياسي الأمريكي يواجه صعوبات جدية في التأقلم مع التحولات الجارية على المستويين الداخلي والخارجي، فلشدة ما أثاره هذا النظام من صخب وضجيج في كل أصقاع العالم، يبدو أنه وصل في نهاية المطاف إلى مرحلة بدأت فيها أصواته السياسية تترنح وتفتقد القدرة على إثارة الانتباه بشكل لافت . وبدل أن ينتقل - النظام - من ثنائية الممالك الحزبية (الجمهورية والديمقراطية) التي هيمنت على تاريخه، نحو تعددية سياسية وحزبية قادرة على إفراز بدائل حقيقية تترجم تطلعات الأمريكيين في المشاركة السياسية الواسعة، فإننا نشهد بداية انزلاق الولايات المتحدة الأمريكية، التي تصنف نفسها كأقوى ديمقراطية في العالم، نحو ممالك عائلية، مدعومة بأرمادة من القوى المحسوبة على جماعات المال السياسي واللوبي الإعلامي التي تسعى إلى احتكار السلطة، دفاعاً عن مصالحها الحيوية داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يجعل المشروعية السياسية الأمريكية تفقد الكثير من مصداقيتها وتبدو هشة إلى حد بعيد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"