الموقف الفرنسي والمفاوضات مع إيران

05:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

قال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس،في معرض دفاعه عن موقفه من الجولة الأخيرة للمفاوضات (6+1) في جنيف إن "فرنسا ليست تابعة ولا معزولة" . هذه الجملة البسيطة المشتقة من تصريح مطوّل خلال مقابلة مع راديو "أوروبا-1" غداة الجولة المذكورة تكفي لفهم الخلفيات الحقيقية للموقف الفرنسي مما يجري حالياً بين واشنطن وطهران، والذي تتوجس منه غير دولة في الخليج العربي وخارجه .
تقول المعلومات الصحفية إن "اتفاق-إطار" كان على وشك التوقيع في جنيف لولا التدخل الفرنسي في اللحظة الأخيرة . فقد خرج فابيوس من الاجتماع ليصرّح، بطريقة خارجة عن المألوف الدبلوماسي على ما وصفها المراقبون، بأن المفاوضات لم تتوصل إلى اتفاق، ولو مرحلي، وبأن لفرنسا شروطاً ثلاثة شرحها الوزير . وقد عبّر الدبلوماسيون الغربيون الموجودون في جنيف عن سخطهم على تصرف الوزير الفرنسي الذي، على حد قولهم، أراد التدخّل والعرقلة في اللحظة الأخيرة فقط ليلفت النظر بأن فرنسا موجودة .
من الناحية الرسمية، المعلنة على الأقل ،لم يبد شركاء فرنسا الغربيون استياءهم من التصرف الفرنسي . فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي كيري، الذي كان قد قطع جولته شرق-الأوسطية ليستعجل التوقيع على اتفاق كان شبه منجز في جنيف، بأن واشنطن وباريس تعملان معاً بكل تنسيق . الأمر الذي دفع أحد محللي صحيفة "لوموند" الفرنسية للقول إن ثمة توزيعاً للأدوار ما بين الفرنسيين والأمريكيين . وبمعزل عن وجود أو غياب مثل هذا التنسيق فإن الموقف الفرنسي المتشدّد لا يضر، في النهاية، مساعي المفاوض الأمريكي الساعي للحصول على القدر الأكبر الممكن من التنازلات الإيرانية . تماماً كما أن المحافظين المتشددين في طهران، يمكن أن يفيدوا الرئيس روحاني الساعي إلى تقديم القدر الأقل الممكن من التنازلات على طاولة المفاوضات . هذه أمور باتت معروفة منذ زمن طويل في مضمار التفاوض وفنونه .
المهم أن الموقف الفرنسي يريد أن يقول إن فرنسا ليست بلداً تابعاً للولايات المتحدة . وهذه العقدة، عقدة التبعية ل"الأخ الأكبر" يتوارثها الفرنسيون منذ الجنرال ديغول الذي وقف في وجه أيزنهاور، العام ،1966 فانسحب من المنظمة العسكرية لحلف الأطلسي . وبعده استمرت السياسة الخارجية الفرنسية في الجنوح الى قدر من التمايز عن الحليف الأمريكي لكنها رغم كل شيء بقيت عاجزة عن التأثير الفعلي في القرارت الأمريكية التي تختلف معها، بل أكثر من ذلك، بقيت في حاجة الى الدعم الأمريكي، السياسي والعسكري، في تطبيقها لسياسات فرنسا الخارجية نفسها . فعلى سبيل المثال لم تتمكن المعارضة الفرنسية الناشطة للحرب الأمريكية على العراق من لي ذراع الرئيس بوش . بل إن الرئيس شيراك اضطر، منذ العام ،2004 الى مصالحة بوش والنظر الى احتلاله للعراق كأمر واقع ينبغي التعامل معه . وعندما قرّر الرئيس ساركوزي التدخل العسكري لمؤازرة الثورة الليبية ضد العقيد القذافي كان لا بد له من الدعم الأمريكي، في مجلس الأمن (القراران 1970 و1937)، وفي الساحة العسكرية (معلومات استخباراتية وطائرات من دون طيار أمريكية ومساندة من الخلف . . . الخ) . وحتى تدخّل الرئيس هولاند في مالي، وهي من دول المربع الفرنسي،بداية العام الجاري، لم يكن ليحدث من دون دعم سياسي أمريكي على الأقل . لائحة الأمثلة تطول وتدل على أن فرنسا تسعى دوماً للبرهنة بأنها ليست تابعة للولايات المتحدة، ولكنها، شاءت أم أبت، لا تستطيع الاستغناء عن الدعم الأمريكي .
ويقول فابيوس إن فرنسا ليست معزولة في موقفها من الملف النووي الإيراني، وهذا صحيح . فالتوصل الى اتفاق بين طهران وواشنطن أثار هواجس عديدة لدى دول الخليج العربي التي تسعى فرنسا الى توثيق علاقاتها التجارية والثقافية والعسكرية معها .
ومن جهة أخرى فإن هذا الموقف نفسه يساعد الرئيس هولاند على إجراء مباحثات ناجحة مع نتنياهو عشية زيارته ل"إسرائيل" وفلسطين .
هذا لا يعني البتة بأن الموقف الفرنسي أملته حسابات تتعلق بالآخرين فقط . فمنذ العام 3002-4002 اتخذت فرنسا الجانب المتشدد في الملف الايراني بسبب سقوط الاتفاق الإيراني-الغربي وقتها، الذي تتهم باريس طهران بعدم احترامه . وقد انسحب هذا الموقف الفرنسي على حزب الله الذي سعت باريس ونجحت في وضعه على لائحة الإرهاب الأوروبي مؤخراً رغم استمرارها في إقامة العلاقات السياسية مع الجناح السياسي للحزب (الزيارة الأخيرة للنائب عن حزب الله علي فياض الى باريس ضمن فعاليات أحد المؤتمرات) . ولا ننسى أخيراً بأن باريس تسعى للاستحواذ على حصة من العقود، البالغة عشرات المليارات من الدولار، التي قد توقعها شركات غربية كبرى (ستكون أمريكية في جلها على الأرجح) للعمل في إيران بعد الاتفاق "التاريخي" معها، إذا حصل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"