الميثاق العالمي للهجرة.. الدواعي والإشكالات

03:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

منذ نهاية الحرب الباردة في بداية التسعينات من القرن الماضي، بات العالم متحرّراً من الصراعات العسكرية والأيديولوجية التي أرخت بظلالها القاتمة على العالم أكثر من نصف قرن من الزمن، ما سمح بالالتفات إلى مجموعة من الإشكالات والمخاطر العابرة للحدود التي غطّى عليها الهاجس العسكري عقوداً من الزمن.
ولم يعد مفهوم السلم والأمن في عالم اليوم مقترناً بغياب التهديدات العسكرية، بل أضحى المفهوم شمولياً ومنفتحاً على عدد من التهديدات العابرة للحدود، في أبعادها الإرهابية، والرقمية، والبيئية، والصحية، والإنسانية. وقد راكم المجتمع الدولي مجموعة من الاتفاقيات والتدابير على طريق مواجهة الكثير من هذه التحديات التي باتت تواجه المجتمع الدولي برمّته، في إطار من التنسيق والتعاون.
وظلت ظاهرة الهجرة حاضرة وبقوة ضمن هذه الدينامية، وبخاصة مع الإشكالات التي باتت تطرحها بالنسبة للدول المستقبلة، أو المصدرة، أو تلك المعنية بالعبور. ورغم أهمية الاتفاقيات الدولية والإقليمية والثنائية المبرمة في هذا الصدد، فقد أبرزت الممارسات والوقائع في السنوات الأخيرة عدم كفاية هذه الجهود في إرساء حماية كافية لفئات واسعة من المهاجرين في إطار من الشمولية.
فالتدفقات البشرية التي تشهدها الكثير من المناطق في العالم، كما هو الأمر بالنسبة لحوض البحر الأبيض المتوسط، والحدود الأمريكية - المكسيكية، وما يرافق ذلك من كوارث إنسانية تحملها تقارير وإحصاءات المنظمات الدولية ذات الاهتمام، تبرز بشكل جليّ حجم الاختلالات والانحرافات التي تطبع تعاطي الكثير من الدول المتقدمة مع هذه الظاهرة، في تنكّر صارخ للاتفاقيات الدولية المرعية، وللأدوار البنّاءة التي لعبتها الظاهرة في ترسيخ التواصل الحضاري الإنساني، ونشر العلوم، وتبادل الأفكار، وتعزيز التعاون التجاري، على امتداد التاريخ.
ورغم التدابير الصارمة التي باتت الكثير من الدول المتقدمة تفرضها على المهاجرين، فإن الظاهرة في تزايد مستمر، وتشير معطيات حديثة صادرة عن الأمم المتحدة، إلى أن عدد المهاجرين على امتداد مناطق دول العالم يبلغ أكثر من ربع مليار شخص، وتصل تحويلاتهم المالية إلى أكثر من 450 مليار دولار.
وبدت دول الاتحاد الأوروبي مرتبكة تماماً أمام تدفّق آلاف المهاجرين السّريين، وطالبي اللجوء في السنوات الأخيرة، وتباينت المقاربات في هذا الصدد، وطغى عليها الطابع الأمني على حساب الاعتبارات الإنسانية.
وأمام هذا الوضع تزايدت المطالب الدولية في أوساط عدد من الدول والمنظمات الحقوقية، ومن داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى اعتماد تدابير أكثر توازناً وشمولية في التعاطي مع هذه الظاهرة الآخذة في التصاعد، والمرشحة إلى المزيد من التطور في المستقبل، تحت ضغط عدد من العوامل والدوافع السياسية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية.
وقد شكل المؤتمر الحكومي الدولي الذي انعقد مؤخراً، بمراكش حول الهجرة، مناسبة لحثّ دول العالم من جديد على تبني الميثاق العالمي للهجرة بشكل رسمي، كما اتفقت عليه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في 13 يوليو/ تموز من عام 2018. ويهدف هذا الميثاق الذي تمّ طرحه بعد مفاوضات شاقة ونقاشات حادّة، في مضامينه الكبرى، إلى السعي لتوفير شروط العيش الكريم داخل البلدان المصدّرة للهجرة، والوقوف على مختلف العوامل المغذية للظاهرة، بكل أشكالها، والعمل على التقليل من المعاناة التي يكابدها المهاجرون، بخاصة الأطفال منهم والنساء، على امتداد رحلاتهم نحول دول الاستقبال، ومن الحملات المتطرّفة التي تحمل قدراً من الكراهية والعنف المسيئَين لهذه الفئة.. والحرص على احترام التشريعات والاتفاقيات التي تضمن كرامتهم، وتحفظ حقوقهم، وحاجاتهم التربوية، والصحية، والتعليمية، ومنع الاتجار في البشر، والعمل على توفير الشروط والمناخ اللازمين لإدماج المهاجرين، والاستفادة من إمكاناتهم وكفاءاتهم المختلفة في تعزيز التنمية، وإثراء التنوع المجتمعي داخل دول الاستقبال، بعيداً عن كل مظاهر الإقصاء، والعنف.
ويبدو أن الميثاق لم يطرح جديداً ضمن مضامينه، بقدر ما حرص على استحضار مجموعة من الحقوق والضمانات التي حملها العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بقضايا الهجرة.
ورغم الترحيب الواسع بالميثاق الذي يشكل أرضية دولية كفيلة بالتعاطي المتوازن مع قضايا الهجرة على المستوى الوطني، والإقليمي، والدولي، بعدما تبنته أكثر من 150 دولة، ورغم الطابع المرن لمقتضياته كإطار للتعاون الذي يفتقد إلى الإلزامية القانونية ويأخذ في الاعتبار احترام سيادة الدول (وإن كانت الجمعية العامة ستواكبه على سبيل التقييم كل أربع سنوات في ضوء الممارسات الدولية)، فإن عدداً من الحكومات عبّرت عن تحفظها، أو رفضها لمضامينه، معتبرة أن الأمر يدعم تنامي الظاهرة بصورة غير محسوبة، فيما أكّدت دول أخرى، كالولايات المتحدة، أن الميثاق يتناقض مع قوانينها الداخلية، ومصالح شعوبها. ورغم ترحيب بعض الجمعيات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية بالاتفاق، فقد أكّدت بدورها على افتقاده كثيراّ من العناصر الداعمة لحقوق المهاجر على مستوى توفير الخدمات، والمساعدة الإنسانية، وضمان حقوق العاملين منهم، وطالبت بالتعامل بحسن نية مع مضامينه بشكل يتناسب والضمانات المرصودة لحماية حقوق الإنسان بشكل عام.
ولا تخلو الجهود الدولية الراهنة لإرساء ضوابط تدعم كسب الكثير من الرهانات التي حملها الميثاق، من صعوبات وتحديات يمكن إجمالها في تضارب مواقف الكثير من الدول بشأن المقاربات الكفيلة بالتعاطي مع الظاهرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"