النموذج الهندي

03:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
لا لأنني عشت في الهند سنوات أربع دبلوماسياً في السفارة المصرية في نيودلهي كما مارست التدريس في جامعة جواهر لا نهرو، لا بسبب هذا أو سبب ذلك فقط أكتب عن التجربة الهندية التي تأثرت بها كثيراً كما تأثر بها بعض المثقفين الذين عايشوها من قبلي وأذكر منهم تحديداً الكاتبين الراحلين كامل زهيري ومحمد عودة، فالهند مثلما هي مصر بلد لا يمكن أن تكون محايداً تجاهه، فإما أن تعجب به وأن تستغرق في التعلق بهويته وأسلوب الحياة فيه وإما لا تصل إلى جوهره ولا تكتشف معدنه الحقيقي فتبدو بعيداً عنه حتى ولو عشت فيه، وعندما هبطت مطار العاصمة الهندية عام 1979 قضيت أنا وأسرتي شهوراً بائسة فى البداية لأن نمط الحياة مختلف، ولم تكن التسهيلات متاحة خصوصاً بالنسبة لاستيراد مستلزمات المنزل الجديد وأدوات الحياة في مجتمع مختلف، إضافة إلى قسوة الطقس وانقطاع الكهرباء لساعات كل يوم وما هي إلا شهور قليلة بعد ذلك إلا وسقطنا جميعاً صرعى حبنا لذلك البلد الضخم وتعلقنا بتلك الأمة العظيمة، وإذ نحن على أبواب مرحلة تحول جذري في بلادنا فإننا نلتمس من التجربة الهندية بعض شواهدها القائمة ونستدعي منها الملاحظات الآتية:
* أولاً: إن التنمية الصناعية هي التي صنعت الهند الحديثة، ولقد أثبتت التجارب المعاصرة أنه لا تقدم بغير صناعة فهي التي تأخذ بيد الشعوب إلى الأمام وهي قاطرة التقدم ولقد أدرك نهرو ورفاقه ذلك في وقت مبكر فبدأوا غداة الاستقلال يفكرون في الدولة الهندية الحديثة التي تحتاج إلى الديمقراطية سياسياً وإلى التنمية اقتصادياً فقرروا أن تكون الصناعة هي قاطرة التقدم الهندي حتى أصبحت تلك الدولة الآسيوية الكبرى واحدة من الدول الصناعية المؤثرة في عالم اليوم، لقد نجحوا في إنتاج لوازم الحياة الهندية من أجهزة مختلفة ونوعيات متباينة وحققوا في ذلك نجاحاً ملحوظاً، فالهند تنتج السيارة وتشارك في تصنيع الطائرة كما أنها أصبحت دولة نووية ودولة فضاء بل وقبل ذلك كله أضحت أيضاً دولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية .
* ثانياً: تمثل الهند أكبر ديمقراطيات العالم المعاصر من حيث حجم الناخبين الذين يصوتون في صناديق الاقتراع ويبلغ عددهم مئات الملايين متجاوزين نصف مليار ناخب بكثير وهم يتوافدون على مقار الانتخابات على امتداد ثلاثة شهور كاملة وقد كانوا هم أول من اكتشف فكرة الحبر على الأصبع الذي لا يختفي لمدد معينة ونقلت عنهم تجارب أخرى نفس الفكرة بما في ذلك مصر، وتعتمد الهند الدولة البرلمانية الكبرى على نظام المجلسين اللوك صابها والراجا صابها وتتمتع الديمقراطية في تلك البلاد الواسعة بدرجة عالية من الشفافية رغم الفقر والأمية وذلك رد حاسم على من يزعمون أحياناً أن مصر غير مهيأة للديمقراطية الحقيقية بدعوى شيوع الفقر والأمية! ويكفي أن نتذكر أن رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي فقدت منصبها وهي في الحكم عندما لم توفق في دائرتها الانتخابية وذلك دليل على حياد سلطات الدولة واحترام إرادة مواطنيها .
* ثالثاً: نجحت الهند في تحويل التعددية العرقية واللغوية والدينية والطبقية لخدمة أهداف الدولة وتحقيق غاياتها، بل وأثبتت التجربة الهندية أن الدول ذات التعددية هي الأكثر استعداداً للتقدم وأن الأحادية في المكون السكاني ليست ميزة بل تعوق أسباب التقدم وتحول دونها، ولقد وظف الهنود التعددية لديهم لكي تكون دافعاً للتوحد والتماسك وليست سبباً للفرقة والانقسام وذلك وفقاً لنظرية الضرورة التي يشعر فيها كل طرف بفائدة الارتباط بالأطراف الأخرى .
* رابعاً: لقد تمكنت التجربة الهندية من تحويل الزيادة السكانية في معظمها تحويلاً نوعياً وجعلت من الكم الكبير كيفاً مفيداً وأثبتت تلك التجربة أن الزيادة السكانية ليست دائماً نقمة بل إنه يمكن تحويلها إلى نعمة مثلما فعلت الهند وقبلها الصين ولعل مصر تستفيد من ذلك النموذج الآسيوي الذي نجح في توظيف الكم لخدمة الكيف وجعل الزيادة السكانية نعمة وليست نقمة من خلال مناهج التعليم وطرائق التدريس وبرامج التدريب وخلق وعي عام بإمكان رفع مستوى الأداء في جميع المجالات .
* خامساً: إن التشابة التاريخي بين التجربتين المصرية والهندية من الناحية السياسية يذكرنا بعلاقات غاندي بزعماء الحركة الوطنية المصرية وفي مقدمتهم سعد زغلول ومصطفى النحاس فضلاً عن الفترة المزدهرة للعلاقات بين البلدين وأعني بها فترة العلاقة الوثيقة بين نهرو وعبد الناصر ودورهما في تكوين حركة عدم الانحياز وتركيزهما على العناصر المشتركة بين البلدين وأهمها مكافحة الفقر وتنمية الصناعة وتعزيز بعض البرامج الإصلاحية، ولكن الذي حدث هو أن هزيمة 1967 كانت لحظة انقطاع وتوقف في المسيرة المصرية بينما استكملت الهند طريقها المرسوم حتى الآن وحققت في ذلك إنجازات مشهودة على معظم المستويات .
. .إن النقاط السابقة تدعونا إلى تأمل النموذج الهندي الذي حقق نجاحات باهرة بينما كان يمضي معنا على خط مواز عند نقطة البداية ولكن أين هم الآن وأين نحن؟! فالجدية والاستمرار ركيزتان حرص عليهما النموذج الهندي وافتقدتهما التجربة المصرية!


د . مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"