الهوية الإيرانية وتهديد الجوار الإقليمي

04:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

مرت إيران بتحولات عدة على مستوى تمثلاتها لهويتها الوطنية في مرحلة ما بعد الثورة على نظام الشاه مع نهاية السبعينات من القرن الماضي، ففي العشرية الأولى من عمر النظام الجديد كان ينظر إلى مصطلح وطني أو دولة وطنية على أنه مناهض للإسلام، لأن الخميني وأتباعه رفضوا في بداية الأمر فكرة الوطنية الإيرانية التي تبناها ودافع عنها نظام الشاه، واعتمدوا في مقابل ذلك على فكرة «الأممية الإسلامية» في محاولة منهم لجعل الثورة الإيرانية مرجعاً ملهما لكل الدول الإسلامية.
لكن هذا الوضعية لم تدم طويلاً، إذ إنه ومع بداية حكم الرئيس علي رفسنجاني، بدأت إيران مسار مصالحتها مع رموزها الوطنية التي تمتد إلى مرحلة ما قبل ظهور الإسلام في زمن الإمبراطورية الفارسية، حيث أكد رفسنجاني أثناء زيارته للآثار التاريخية في بيرسيبوليس، على هذا العنصر الهوياتي بقوله: «في وسط هذه الآثار الضاربة في عمق التاريخ، أحسست كم هو أساسي شرف الأمة وإلى أي مدى يتوجب تدعيمه. على شعبنا أن يعلم بأنه ليس من دون تاريخ»، وقد مثلت هذه الكلمات في نظر الباحثين الغربيين بداية الانتقال التدريجي لإيران من مرحلة الدولة الدينية إلى مرحلة الدولة الوطنية.
لقد استطاعت الدولة الإيرانية الجديدة أن تعيد التوازن في فترة وجيزة بين مكونات هويتها الوطنية المتمثلة في الأبعاد الثلاثة التالية: البعد الديني الإسلامي، البعد الوطني الذي يستمد جذوره من التاريخ الفارسي القديم، والبعد الحديث للدولة الذي يضع إيران في علاقة مع بقية العالم. وتدعم هذا البناء الهوياتي الجديد القائم على جدلية العنصرين الوطني والإسلامي في عهد الرئيس أحمدي نجاد، الذي كان يولي اهتماماً لافتاً للأبعاد التاريخية ما قبل الإسلامية التي رأى أنها تلعب دوراً كبيراً في الذاكرة الجماعية للشعب الإيراني، الذي يصل لديه البعد القومي في أحيان كثيرة، إلى مستويات متطرفة، حتى لا نقول عنصرية.
وقد بدأ هذا البعد الوطني والقومي في التطور بشكل كبير مع الرئيس الجديد الذي يسعى إلى تحويل إيران إلى دولة قريبة من نموذج الدول ذات الاقتصادات الناشئة على غرار ما حدث بالنسبة إلى دول «البريكس».
ويمكن القول بناءً على ما تقدم إن عناصر الهوية الإيرانية تحولت في مرحلة وجيزة، من قضية داخلية تخص الشعب الإيراني بالدرجة الأولى إلى مصدر قلق بالنسبة إلى جوارها الإقليمي، لأسباب عدة، من أبرزها رغبتها المتنامية في توسيع حدود جغرافيتها السياسية على حساب جيرانها من خلال توظيف أوراق متعددة، يرتبط بعضها بالجوانب المتعلقة بالحدود التاريخية لدول الخليج العربي، ويمس بعضها الآخر توظيف ورقة الإسلام الشيعي. حيث سعت إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية من خلال استثمار ملف الأقليات الدينية في لبنان وسوريا واليمن، وعملت على توظيف نفوذها في العراق من أجل التأثير في القسم الأكبر من الكتل السياسية الشيعية، وقد ولدت هذه التحركات الإيرانية قناعة لدى العديد من القادة العرب، لاسيما في محيط جوارها الإقليمي، أن طهران تسعى إلى بسط هيمنتها على المنطقة العربية، بالشكل الذي يعيد إثارة المخاوف المتعلقة بالأحلام التوسعية للإمبراطورية الساسانية.
وتذهب الكثير من التصريحات الإيرانية في اتجاه دعم هذه المخاوف، فقد سبق لوزير الاستعلامات في عهد الرئيس محمد خاتمي والمستشار الحالي للرئيس روحاني للشؤون الدينية والأقليات، أن أكد بقوله، أثناء تجمع خاص بإشكالية الهوية الإيرانية: «إننا ندافع عن كل شعوب المنطقة لأننا نرى أنهم يمثلون جزءاً من إيران (التاريخية)، إننا نواجه التطرف الإسلامي والتكفيري والملحدين والعثمانيين الجدد والقوى الغربية والصهاينة»، وأضاف في السياق نفسه أنه «بالإمكان أن يكون تعاون ثقافي واقتصادي وسياسي ما بين دول المنطقة التي كانت تشكل في السابق الإمبراطورية الفارسية». كما ذهب بعض القادة العسكريين الإيرانيين إلى التأكيد على أن إيران بصدد العمل على بسط نفوذها إلى غاية الضفة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط،. وشكل إقدام حلفاء إيران على السيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء، ما يمكن أن نصفه بالقطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة إلى دول المنطقة، لأن الجغرافيا السياسية لليمن تمثل الحديقة الخلفية لدول الخليج.
ويؤكد المراقبون الدوليون أن إيران تسعى في الدول العربية التي تملك فيها نفوذاً سياسياً، إلى خلق ميليشيات طائفية عوض العمل من أجل التحكم في الجيوش الوطنية التي فقدت جزءاً كبيراً من قدرتها على السيطرة على الأوضاع الداخلية، ويظهر ذلك بشكل لافت في العراق الذي تلعب فيه قوات الحشد الشعبي دوراً يتجاوز بكثير دور الجيش النظامي الذي مازال يبحث عن عقيدته القتالية في مواجهة التكفيريين؛ وتحولت بذلك هذه الميليشيات إلى القوة العسكرية الأبرز في البلاد مع انطلاق معركة تحرير تكريت من قبضة تنظيم «داعش». وقد دفعت هذه الوضعية النائب العراقي محمود المشهداني الرئيس السابق للبرلمان، إلى التأكيد أن الميليشيات تدين بالولاء إلى إيران؛ وتكمن المشكلة الأبرز التي تمثلها هذه الميليشيات في أنها تعيق جهود المصالحة الوطنية في الدول التي باتت تمزقها الحروب الأهلية مثل العراق وسوريا واليمن.
كما أن المعضلة الكبرى التي تفرزها هذه الوضعية المأساوية، تتمثل في كونها تخلق مزيداً من أجواء التطرف، لأن مواجهة الجماعات السلفية والتكفيرية من خلال دعم الميليشيات المذهبية يؤدي في نظر أغلب القوى الإقليمية إلى استقطاب المزيد من المجموعات «الجهادية» نحو مناطق النزاع في الدول العربية التي تعاني انعدام الاستقرار. وعليه فإنه وعوض دعم الميليشيات يفترض الحرص على دعم الجيوش الوطنية، واعتبارها اللبنة الأساسية التي تتمحور حولها كل مشاريع الحلول السياسية التي تسعى مختلف الأطراف الدولية والإقليمية إلى إنضاجها، بهدف تجاوز حالة الاستقطاب الشيعي - السني التي من شأنها أن تأتي على الأخضر واليابس.
ما يمكننا أن نلاحظه في الأخير هو أن إيران تسعى إلى إقامة صرح جيوسياسي فوق رمال متحركة، ويتوجب عليها بالتالي أن تتعامل بنوع من الحذر والعقلانية في تعاطيها مع المسائل المتعلقة بهويتها الوطنية وطموحاتها الإقليمية التي يفترض ألا تتصادم مع التطلعات السياسية المشروعة لدول المنطقة؛ ويتوجب من ثمة أن يقتنع الجميع أنه من الخطأ أن نختار بين تطرفين متعارضين، أي بين الطاعون والكوليرا، لكي لا يكون حالنا أشبه بمن يستجير من الرمضاء بالنار. ولا مجال بالتالي للحديث في إطار هذا الوضع المتسم بشدة التعقيد عن إسلاميين معتدلين، فمثل هذه الأطروحات تهدد دولاً بأكملها في المشرق وشمال إفريقيا؛ لأن هذه الدول لا يمكن لمنظومتها السياسية والأمنية أن تعيد هيكلة نفسها وفقاً للأسس التي تتبناها جماعات الإسلام السياسي.
وعلينا أن نحذر في سياق متصل، من أن صراع الأجندات السياسية في الوطن العربي يجب ألا يتخذ مسارات راديكالية قد تفضي إلى انهيار الدول الوطنية في المنطقة، لأن إعادة النظر في الأسس التي بنيت عليها المؤسسات العسكرية للدول غداة مرحلة الاستقلال سيؤدي من دون شك إلى تفسخ وانهيار المنظومة الوطنية برمتها، على غرار ما يحدث الآن في العراق وليبيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"