الوحدة العربية ولا غيرها

05:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

أما وأن القوى الخارجية، وفي المقدمة الصهيونية العالمية، بتعاون وتناغم مع بعض القوى العربية الداخلية، قد استطاعت عبر العقود الأربعة الماضية، وليس السنوات الأربع الماضية كما يظن البعض، إضعاف جسد الواقع العربي من خلال اختراق منظّم تراكمي للكثير من أنظمة الحكم والاقتصاد والأمن والمجتمعات المدنية والمؤسسات الإقليمية، فإنها الآن تهيّئ لنقلة خبيثة نوعية تصيب الجسد المعنوي العربي، فكراً وثقافة وأحلاماً كبرى.

وإلى حدّ ما، هناك نجاحات محدودة لتلك المساعي الخبيثة. في قلب تلك المساعي زرع الشكوك واليأس من فكر ومشاعر هوية العروبة، وبالتالي إضعاف الإيمان بضرورة الوحدة العربية والعمل من أجل تحقيقها.

ومن ثم إقناع شعوب الأمة العربية بأن كل من آمن، ولا يزال يؤمن بالفكر والنضال القومي العروبي الوحدوي هو من الحالمين المراهقين في الحياة السياسية العربية. وبالطبع فالمراهقون تنقصهم الرزانة والحكمة والموضوعية والواقعية.
لكن دعنا نتوجه إلى شعوب الأمة العربية جميعها، وبالأخص شبابها وشاباتها، لنردّ على ذلك السخف الخبيث بطرح أسئلة بشأن الواقع المأساوي الذي تعيشه جميع أقطار الوطن العربي في اللحظة الراهنة. دعنا نضع جانباً الرّدود الفكرية النظرية والدروس المستقاة من تجارب الأمم الأخرى، مع أن فيها الكثير الكثير مما يفند تلك المقولات التي يطرحها أعداء الوحدة في الداخل والخارج، ولنركز الأنظار على الوقائع.
السؤال الأول: لو أن الوحدة المصرية السورية، ممثلة في الجمهورية العربية المتحدة، بقيت صامدة حتى يومنا هذا، ولم تتساقط أمام رشى قوى التآمر الخارجية، وأمام أخطاء الداخل وخطاياه، فهل كان باستطاعة أحد أن يستبيح القطر السوري ويمزق أوصاله ويجعله ألعوبة مفجعة في يد الدول الكبرى كما نراه اليوم؟
السؤال الثاني: وحتى بعد فاجعة تهاوي تلك الوحدة، لو أن حزب البعث وحّد القطر السوري مع القطر العراقي في دولة واحدة، عندما حكم القطرين في الفترة نفسها حزب واحد، ولم يسمح للصراعات بين بعض قادته تعلو فوق مصالح الأمة العربية الكبرى، فهل كان سيجرؤ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على أن يكتسح العراق ويمزق أوصاله ويشعل نيران الطائفية فيه، ويدوس على شرف جيشه ويجعله لقمة سائغة لنفوذ إيران وتركيا ودول الغرب، وللتواجد الصهيوني العلني في شماله؟ ومرة أخرى هل كان باستطاعة أحد أن يمس سوريا لو كانت جزءاً من دولة وحدة عراقية - سورية؟
السؤال الثالث: هل كان بالإمكان تجنيب اليمن الشقيق الدخول في المتاهات القبلية والطائفية والصراعات المناطقية والاستباحات الأمريكية التي دخل فيها التي أوصلته إلى الحالة المأساوية التي يعيشها الآن؟
السؤال الرابع: لو أن دول المغرب العربي الخمس غلّبت العقل ومنطق الأخوة والمستقبل الوحدوي الزاهر المشترك، ونبذت الخلافات العبثية فيما بينها، فهل كان سيجرؤ الغرب الاستعماري، على استباحة القطر الليبي وإدخاله في الجحيم الذي يعيشه الآن من صراعات قبلية وجهوية؟
وفي جميع أحوال تلك الأقطار العربية المنكوبة هل كان باستطاعة شتّى الاستخبارات الدولية والصهيونية والإقليمية أن تجند شراذم الجهاديين التكفيريين ليفعلوا ما يفعلونه بساكني وتراث ومستقبل هذا القطر، أو ذاك؟
إذا كانت هذه الصورة المملوءة بالبؤس والأخطار، التي كان أحد أسبابها تجزُؤ هذه الأمة إلى وحدات قابلة للاستباحة، وإضاعة فرص قيام وحدات أكبر وأقوى، لا تقنعنا بأهمية الرجوع إلى محاولة بناء وحدات عربية أكبر من الحاضر، تمهيداً لنوع من الوحدة العربية الشاملة في المستقبل، وذلك لدرء الأخطار المتعاظمة وإيقاف الضباع التي تنهش جثة هذه الأمة.. إذا كان كل ذلك أيضاً لا ينقل الجامعة العربية من كونها نظاماً إقليمياً ضعيفاً مكتوف اليدين إلى أن تصبح نظاماً عربياً قومياً متماسكاً في القريب العاجل.. إذا كان كل ذلك لا يقنعنا بفشل الدولة العربية القطرية في أن تحمي نفسها من تدخلات الخارج وانفجارات الداخل، فضلاً عن فشلها في التنمية والسباحة بجدارة في نهر حضارة العصر الذي نعيش.. إذا كان كل ذلك لا يقود إلى الرجوع لبناء تيار قومي عروبي يضغط نحو الخروج من الجحيم الذي نعيش، ومن الهوان الذي نشاهد، ومن الدخول في القبر الذي نجلس على حافّته فإننا أمة لا تستحق الحديث عن تاريخ لها كان ملء العين والسمع، ولا تستحق أن تحلم بدخول العصر من أبوابه الواسعة.

لا نبالغ إن قلنا، إما الوحدة العربية وإما خروج الأمة، قطراً بعد قطر، من قلب ساحات حضارة العصر، والاكتفاء بالعيش في ذل التهميش والتبعية.

كل خطوة نحو توحيد هذه الأمة سيدقّ مسماراً في نعش التدخلات الاستعمارية الخارجية، وفي نعش التكفيريين، وفي نعش قوى المصالح الداخلية التي لا تستطيع العيش إلا في أجواء التجزئة العفنة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"