الوزارة فرد أم مؤسسة؟

03:48 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. مصطفى الفقي

لفت نظري في السنوات الأخيرة تناوب الوزراء على الحقيبة الواحدة بمعدل سريع، حتى أصبح وجود الوزير في منصبه لا يتجاوز أحياناً شهوراً قليلة، وذلك بسبب الظروف التي تمر بها البلاد وتداعيات ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

وإذا كان البعض يرى أن ذلك يدل على حيوية النظام السياسي فإنني أراه مؤشراً سلبياً ينال من استقرار السياسات ويؤدي إلى حالة من الانقطاع المفاجئ في مسيرة كل وزارة بل وتحويلها أحياناً إلى اتجاه مختلف، خصوصاً وأن وزارات ذات حساسية خاصة قد عانت ذلك ولعلي أذكر منها على سبيل المثال وزارتي التعليم والثقافة. فلقد كنا نشكو في حكم الرئيس الأسبق مبارك من طول بقاء الوزير في موقعه حتى تجاوز بعضهم العشرين عاماً على قمة وزارته، فإذا بنا نحن ننتقل الآن إلى النقيض، فلا يستمر الوزير مدة تكفي لتطبيق الأفكار الجديدة ولا متابعة السياسات القائمة.. بل تؤدي بعض التغييرات إلى انقلاب في مفهوم العمل الوزاري وأهميته في بلادنا، وربما يرجع ذلك إلى التعجل في اختيار بعض الوزراء الذين لم يختبروا في مواقعهم العملية على نحو كاف فضلًا عن عزوف كثير من الشخصيات المؤهلة عن قبول المنصب بسبب حملات التجريح الإعلامي أحياناً أو الشعور بقصر المدة المتوقعة في المنصب أحياناً أخرى فضلًا عن الإحساس بشيوع سياسة «الأيدي المرتعشة» التي يعانيها بعض الوزراء وتؤدي إلى عجزهم عن اتخاذ القرار المناسب عند اللزوم.
وما أكثر الفرص التي ضاعت على الدولة المصرية نتيجة غياب روح المبادرة والإحجام عن اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب وتفضيل حالة السكون وتجميد المواقف بدلاً من الدخول إلى المشكلات والتعامل معها في شجاعة وشفافية ووضوح. والملاحظ أن منصب الوزير في بلادنا يأخذ أكثر من حجمه حتى يتحول بعضهم أحياناً إلى «فرعون» صغير على مقعده، بل إنني هنأت أحياناً بعض الوزراء الجدد فوجدت أن نغمة الصوت قد اختلفت واكتشفت أن الشخصية قد تغيرت فجأة، وقد لا يستعيد الوزير توازنه إلا بعد أن يترك منصبه وتلك ظاهرة لا نظير لها في معظم دول العالم.
فالوزير غالباً ما يكون سياسياً أو خبيراً كبيراً في مجاله يأتي للعطاء فترة معينة ولا يكتشف لنفسه ميزة على سواه حتى إن النظام الفرنسي يطلق على رئيس الوزراء لقب «الوزير الأول» وهو ما تأخذ به بعض الدول العربية في الشمال الإفريقي أيضاً باعتبار أنه لا يعدو أن يكون «الأول بين متساويين»، وإذا دخلت محفلاً عاماً - زفافاً أو عزاءً - سوف تجد أن حجم الوزير يحتل مساحة كبيرة في عقل من يستقبله ويجري تمييزه بشكل مبالغ فيه لا أجد له مثيلاً حتى في دول عربية شقيقة أو دول إفريقية صديقة استوعبت تقاليد الغرب وبدأت تعيش روح العصر، ونحن ما زلنا ندق «دفوف الفراعنة» ونحمل «مباخر المماليك»! دعونا نناقش النقاط التالية:

}أولاً: الأصل في وظيفة الوزير أنه المستشار الأول للدولة في تخصصه والمسؤول التنفيذي الكبير في القطاع الذي يتحمل مسؤوليته ولأن الوزارة تقوم على «المسؤولية التضامنية» فإن التناغم بين أعضائها والتفاهم بين وزرائها أمر ضروري وإلا وجدنا أنفسنا أمام جزر منعزلة ليس بينها ضابط ولا رابط، لذلك فإن تغيير وزير معين لابد أن يتوافق مع المجموع الكلي للوزراء وأن يكون امتداداً طبيعياً لروح الفريق لديهم، ومنصب الوزير ليس تحليقاً نظرياً في فرع من فروع المعرفة ولكنه تكليف رسمي لتقديم الخدمة أو رفع معدل الإنتاج وفقاً لطبيعة المسؤولية التي يتحملها. فما أكثر الوزراء الذين كانوا أساتذة مرموقين في الجامعات ولهم كثير من المؤلفات ولكن قدرتهم محدودة في علم الإدارة ورؤيتهم قاصرة عن تخيل المشروع الوطني لوزاراتهم، لذلك فإن الوزير يجب أن يكون واقفاً على أرض نظرية صلبة ولكنه يملك في الوقت ذاته حرية الحركة من أجل التغيير والتطوير.

}ثانياً: يجب أن نتعامل مع التكليف الوزاري باعتباره مسؤولية وليس مجرد مظهرية تقف عند حدود «الأبهة» والحراسة والتلميع الإعلامي..إذ إن الوزارة هي جهاز تنفيذي لسياسة معدة سلفاً وفقاً للمصالح العليا للبلاد وهي مصالح لا تحتمل العبث ولا الدخول في التجارب غير المدروسة ولا شراء رضاء الرأي العام في المدى القصير على حساب مستقبل الأجيال القادمة. ولعلنا نتذكر الآن ما جرى في السياسة التعليمية منذ عدة سنوات من إلغاء السنة السادسة الابتدائية ثم إعادتها ونفس الأمر بالنسبة للدراسة الثانوية في نهاية سنواتها. إننا يجب أن نطالب بدراسات مستقرة ومستمرة لأن التغيير الدائم يؤدي إلى نتائج سلبية يدفع الوطن ثمنها في النهاية.

}ثالثاً: لعلنا نلاحظ أن الوزراء الحاليين (ربما في العصر الجمهوري كله) هم وزراء فنيون في معظمهم وليسوا وزراء سياسيين، هل أتى إلينا صاحب مدرسة فكرية في التعليم مثل طه حسين الذي رآه كالماء والهواء؟ أو حتى مثل إسماعيل القباني الذي آثر الدقة في الاختيار والانتقال التدرجي في التعليم إلى أعلى؟ لم تعد لدينا هذه المدارس الفكرية ذات التوجهات السياسية لأن الوزير أصبح فنياً تنفيذياً ليس لديه في الأغلب رؤية سياسية ولا نظرة بعيدة لأنه مكبل بقيود الوظيفة وأغلال التعليمات غير المدروسة في كثير من الأحيان. لذلك فإنني أقول صراحة إن دوام السياسات هو أمر مطلوب من أجل استقرار الإصلاح.. ولكن ذلك لا يمنع من الحاجة إلى الوزير السياسي الذي يمتلك فكراً متميزاً يطرحه على الشعب وبرلمانه والمجتمع وأجهزة إعلامه لعله يصل إلى صيغة توافقية حول القضايا الحساسة التي تمس رجل الشارع خصوصاً تلك المتصلة بالتعليم والصحة.

}رابعاً: إن ضرورة العودة إلى نظام «الوكيل الدائم للوزارة» والذي يدير «دولاب» العمل اليومي ويستمر في إدارة الوزارة بغض النظر عن شخص الوزير بحيث يصبح ذلك «الوكيل الدائم» هو أكبر الفنيين والتنفيذيين معاً، وهو القادر على ضمان الاستمرارية والحفاظ على قوة الدفع الدائمة التي لا تتأثر بالتعديلات أو التغييرات الوزارية لأننا عانينا كثيراً عمليات الصعود والهبوط التي لا مبرر لها في أجهزة الوزارات المختلفة، لذلك فإن فكرة «الوكيل الدائم» قد تكون ضماناً لحالة الاستقرار المطلوبة في المؤسسة الوزارية الحديثة.

هذه رؤيتنا الموجزة تجاه قضية تغيير الوزراء بشكل سريع وتأثيره في استقرار السياسات وتحقيق الأهداف مع السقوط في الصراعات التي لا مبرر لها، حتى رأينا نماذج لمسؤولين كبار يسفه كل منهم من سبقوه ويغلق الباب أمام من يلحقوه! ويواصل التصريحات العابثة والكلمات المطاطة والتصريحات الوردية والشعب لا يجني من ذلك شيئاً.. إننا نريد دولة عصرية ديمقراطية مستقرة توازن بين حيوية التغيير واستقرار السياسات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"