اليونان تطوي صفحة اليسار الحاكم

03:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

كشفت الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو/‏أيار الماضي عن تراجع واضح لحزب سيريزا اليساري الحاكم في اليونان، والذي مُنيّ بهزيمة ماحقة؛ دفعت بزعيمه رئيس الوزراء الكسي تسبيراس إلى الإعلان عن انتخابات تشريعية مسبقة في السابع من يوليو/‏تموز 2019
وكان حزب سيريزا اليساري الراديكالي بزعامة تسبيراس قد وصل إلى السلطة في انتخابات يناير/‏كانون الثاني 2015 للمرة الأولى منذ عقود طويلة؛ وذلك بحصوله على نسبة 35% من الأصوات. هذا الشاب، في عمر الأربعين عاماً، الذي يرتدي قميصاً أبيض، ويحمل وردة حمراء، وعد اليونانيين بالخروج من الأزمة المالية، التي ضربت بلادهم؛ وذلك من دون الخضوع للسياسات التقشفية، التي فرضتها المؤسسات الدولية الدائنة.
ثم ،اضطر تسبيراس إلى ممارسة سياسات أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار؛ وذلك عبر إجراءات تقشفية قاسية حملت اسم «خطة إصلاحية» تضمنت تخفيضاً لرواتب العاملين والمتقاعدين، وقروضاً جديدة وضرائب ورسوماً مرتفعة وإصداراً لسندات خزينة بفوائد بلغت 23% هي الأعلى في منطقة اليورو، والتي استفاد منها الميسورون والأغنياء والدائنون. وقد بقيت المديونية رغم ذلك في مستوى 180% من الناتج الداخلي الإجمالي.
في أغسطس/‏آب 2018 خرجت اليونان رسمياً من أزمتها المالية، وأعلن تسبيراس عن «الفوز التاريخي»؛ المتمثل بخروج بلاده من الدائرة المغلقة لخطط الإصلاح؛ بل أكثر من ذلك، كشف عن فائض في الموازنة هذه المرة بلغ 3.5٪؛ وهو رقم تخطى ما كان يفرضه على أثينا الدائنون من اتحاد أوروبي وصندوق نقد وبنك دوليين وغيرهم. لكن هذا «الانتصار» جاء في الواقع على حساب الطبقة المتوسطة، التي كان عليها تحمل أعباء الضرائب والرسوم الجديدة والمتجددة.
لقد جاهد حزب سيريزا؛ لحماية حقوق الطبقات الفقيرة في وقت بات فيه 35٪ من الشعب اليوناني تحت عتبة الفقر؛ لذلك كان لا بد للطبقة المتوسطة من تحمل كُلفة الإصلاح، هذه الطبقة التي راحت تنمو في داخلها بذور معارضة الحكم اليساري، والتي انتظرت الفرصة المناسبة للانتقام. هذا الحكم أعماه غياب الاحتجاجات والتظاهرات الكبرى كما تلك التي سادت خلال الحكم اليميني السابق؛ لكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في اليونان قرعت جرس الإنذار، ودفعته إلى إجراء انتخابات تشريعية مسبقة أرادها مناسبة لإقناع اليونانيين بصوابية سياساته، وضرورة توليه لولاية ثانية يتمكن خلالها من تطبيق إصلاحات لمصلحة الطبقة الوسطى، التي عانت في الولاية الأولى.
فالحقيقة أن سيريزا قام بسياسات إصلاحية آتت أكلها؛ عبر ترشيد الإنفاق العام وترشيق الموازنة، ناهيك عن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 650 يورو أو الاتفاق التاريخي الموقع مع جار الشمال الذي بات اسمه «مقدونيا الشمالية»، وهو الاتفاق الذي انتقده حزب «الديمقراطية الجديدة» بلهجة بالغة القساوة. هذا الحزب وعد بتخفيض الضرائب وجلب الاستثمارات الخارجية وزيادة النمو ومكافحة البطالة وغيره، وخاض معركة انتخابية عبر وسائل إعلام خاصة قوية ورجال أعمال نافذين.
لم تنفع إعلانات رئيس الوزراء بأنه الزعيم اليوناني الوحيد الذي لم يغتنِ، وبأن حزبه لم يتورط بأي فضيحة فساد، ولا دعوته لغريمه كرياكوس ميتسوتاكيس إلى مناظرة تلفزيونية علنية رفضها هذا الأخير، فقد عادت رياح اليمين تهب مجدداً على اليونان .
وهكذا كما توقعت استطلاعات الرأي العام فاز حزب «الديمقراطية الجديدة» اليميني بالأكثرية المطلقة (39.7٪ من الأصوات ما يعادل 158 مقعداً في مجلس النواب من أصل 300 مقعد) متفوقاً بثماني نقاط على غريمه اليساري سيريزا (31٪ من الأصوات أي 86 مقعداً) فجمع الاثنان معاً أكثر من 70٪ من مجموع الأصوات ما يعني عودة للثنائية الحزبية التي حكمت اليونان لعقود ممتدة قبل عام 2010.
وهناك من يقول إن هذه الانتخابات أعادت البلاد إلى وضعها الطبيعي وجاءت انتقاماً للكتلة الناخبة الكبيرة في الطبقة المتوسطة من الحزب اليساري. كما لاحظ المراقبون عودة «العائلوقراطية»؛ ذلك أن رئيس الوزراء الجديد كرياكوس ميتسوتاكيس (51 عاماً) هو ابن قسطنطين رئيس الوزراء المحافظ بين العامين 1990 و1993،وأخته دورا كانت وزيرة للخارجية وعمدة للعاصمة أثينا في العقد المنصرم وابنها كوستا انتخب في المركز نفسه في انتخابات الشهر المنصرم. وفور إعلان نتائج الانتخابات شكر ميتسوتاكيس عائلته وقال: إني فخور بها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"