انتصار الدولة الوطنية

05:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي
مثّل الاستفتاء الذي نُظم في أسكتلندا من أجل تحديد موقف مواطني هذه المقاطعة البريطانية من مشروع الاستقلال عن الدولة الاتحادية، سابقة مثيرة وجد متميزة في تاريخ الدول الوطنية المعاصرة، فقد كان الانطباع السائد عند الأغلبية الساحقة من المحللين يشير إلى أنه ما من مجموعة سكانية خُيّرت بين الوحدة والانفصال إلا واختارت الانفصال . وذلك بالنظر إلى ما تمثله كلمة الاستقلال من سحر وجاذبية بالنسبة للمواطنين الذين يعتقدون أن البقاء في وطن موحد ومترامي الأطراف، قد يفرض عليهم أعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة، ويؤدي من ثمة إلى التقليل من حظوظهم في المشاركة السياسية وفي التأثير المباشر في صناع القرار في العواصم المركزية سواء داخل أوروبا أو خارجها .
وتكمن أهمية هذه السابقة في أنها حدثت في قلعة من قلاع الدول الوطنية في قارة أوروبا، التي شهدت نشأة ما أضحى يعرف بالكيانات السياسية القومية التي ظهرت في مجملها منذ أكثر من قرنين من الزمن على أساس التقارب الهوياتي الذي تمثله اللغات الوطنية، التي انتشرت واستقر عودها بفضل برامج رعاية التعليم وتشييد المدارس من أجل تمكين أكبر قدر من المواطنين من التحكم في هذه اللغات وتسهيل عملية التواصل ما بين مختلف المناطق .
صحيح أن رفض الأسكتلنديين للانفصال بأغلبية بسيطة لا يمثل في حد ذاته نهاية حلم الاستقلال بالنسبة لحملة الهويات الجزئية، ولكنه يعطي في المقابل مؤشراً قوياً ومقلقاً بالنسبة لدعاة الانفصال في مقاطعتي الباسك وكتالونيا في إسبانيا ومنطقتي كورسيكا ولابروتاني في فرنسا، وبخاصة أن الاستفتاء الأسكتلندي جرى في جو كامل من الهدوء والسكينة في دولة ديمقراطية أكد مسؤولوها أنهم سيحترمون إرادة الناخبين بصرف النظر عن النتيجة النهائية للاقتراع .
ويمكن لهذا الحدث السياسي أن يبعث في اللحظة نفسها رسائل عديدة وبليغة إلى كل الأطراف السياسية في معظم الدول القطرية في الوطن العربي المهددة بالتقسيم من قبل حملة هذه الهويات الجزئية، لاسيما في داخل الدول التي تعرف هزات سياسية عنيفة مثل ليبيا والعراق وسوريا . ومن شأن هذه الرسائل أن تسهم أيضاً في إعادة النظر في الكثير من الحسابات التي تقوم بها قوى إقليمية ودولية من أجل دعم وتضخيم التوجهات الانفصالية بهدف تحقيق مكاسب سياسية عاجلة .
ونعتقد أن العراق قد يستفيد أكثر من غيره من هذا الدرس الأسكتلندي، وبخاصة أن تقسيم العراق بعد الاحتلال إلى مقاطعات ومحافظات جرى على أسس طائفية وعرقية، ومن المأمول بالتالي أن تُحسن النخب السياسية العراقية وفي مقدمها النخبة الكردية قراءة هذه الرسائل بكثير من التبصر والحكمة . لأن الخطابات السياسية التي تهدف إلى تفكيك الدول الوطنية على أسس طائفية وعرقية ستُحول المنطقة العربية برمتها إلى برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة .
والدرس الأسكتلندي بقدر ما هو موجه لأصحاب الهويات المتشظية والجزئية، فإنه موجّه بالقدر نفسه إلى الكيانات الوطنية في العالم العربي، التي يُفترض أن تلتزم أكثر فأكثر بقواعد الحكم الراشد من خلال إتاحة الفرصة لمواطني كل المقاطعات والأقاليم من المشاركة في تسيير شؤونهم المحلية، والمساهمة أيضاً وبالقدر نفسه في مراقبة ما يحدث من تطورات على مستوى مؤسسات الدولة المركزية، ونزعم في هذه العجالة أن رئيس الوزراء البريطاني كاميرون كان محقاً عندما قرّر أن يستثمر هذا النصر الانتخابي من أجل الإعلان عن إعطاء مزيد من الصلاحيات لمختلف مقاطعات الاتحاد البريطاني، من أجل ترسيخ دعائم الكيان الوطني .
وعليه فإن الانتصار الحقيقي للدول الوطنية لا يكون فقط من خلال صناديق الاقتراع، ولكن انطلاقاً من كسب المزيد من قلوب وعقول المواطنين وجعلهم ينخرطون بكل حماسة وصدق في سياق مشروع وطني جامع، يحقق القدر الأكبر من تطلعات كل المناطق الجغرافية للكيانات الوطنية؛ لأن النصر السياسي يظل مؤقتاً ويمكن أن يمثل لحظة عابرة، إذا لم تتم ترجمته إلى تقليد سياسي ومؤسسي مبني وفق أسس وقواعد صلبة، يُسهم في جعل حلم الوحدة شعاراً قادراً على الرسوخ في القلوب والمشاعر والأفئدة قبل النصوص والدساتير .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"