انحسار الدور الأمريكي في فلسطين

04:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

أحرجت الانتفاضة الفلسطينية الجديدة الكثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين، لأسباب عدة لعل من أبرزها انشغال مختلف الأطراف بالملف السوري والحرص الذي يبذلونه من أجل أن تظل الأضواء الكاشفة مصوّبة بشكل كامل نحو سوريا، حتى لا يتشتت التركيز وتضيع «الحقائق» تحت وطأة فوضى الأحداث في المنطقة العربية.
وقد يكون الطرف الأمريكي من أكثر الأطراف تأثراً بتداعيات الأحداث على مستوى القضية الفلسطينية، لأنه منشغل انشغالاً غير مسبوق بملفات عاجلة تتعلق بالتحركات الروسية في المنطقة، وبتطورات العلاقات مع الأطراف الفاعلة في منطقة بحر الصين، وتحديداً في هذه المرحلة التاريخية التي تشهد فيها السياسة الخارجية الأمريكية تراجعاً غير مسبوق على مستوى قدرتها على التأثير في مسار تطور الأحداث في العالم.
وقد عكس التحرك الدبلوماسي الأمريكي المتأخر والعشوائي مدى حيرة وتخبط موقف واشنطن بالنسبة للتعاطي مع الملف الفلسطيني، وبخاصة بعد تراجع كل الأوراق التي تمتلكها الإدارة الأمريكية بالنسبة لمشاريعها المتعلقة بتسوية ملف النزاع العربي- «الإسرائيلي»، وسقوط مشروع حل الدولتين في مستنقع التعنت الصهيوني. وبدا للكثيرين أن موقف كيري بعد لقائه رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نتنياهو، كان بروتوكولياً إلى حد بعيد، وكأن الخارجية الأمريكية وصلت إلى مرحلة الإشباع الكلي وربما اليأس الكامل بالنسبة لما يحدث من تداعيات مأساوية فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، لأنها لم تعد قادرة على تقديم وعود جديدة بشأن موضوع التسوية، ولا تستطيع حتى أن تدعو- بشكل جدي - طرفي النزاع إلى إجراء مفاوضات صورية من أجل تخفيف الاحتقان وكسب المزيد من الوقت، لأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية باتت على الأبواب، وينتظر البيت الأبيض نزيلا ًجديداً بعد أن شارفت العهدة الثانية للرئيس أوباما على الانتهاء.
دعوة كيري الطرفين الفلسطيني و«الإسرائيلي» إلى وقف العنف كانت شبيهة إلى حد بعيد بصرخة مبحوحة في واد، لأنها بيّنت أن أمريكا لم تستوعب كل التحولات التي طرأت على المنطقة، وقد حاول كيري من خلالها أن يساوي بين الضحية والجلاد، وذلك على خلاف دول أخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن مثل روسيا التي دعت إلى التعامل مع الجانب «الإسرائيلي» بوصفه يمثل قوة احتلال ويجب أن يتحمل بالتالي المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كل ما يقع في الأراضي الفلسطينية، وعلى خلاف الموقف الفرنسي أيضاً الذي فاجأ الكثيرين عندما دعم الممثل الفرنسي فكرة إنشاء قوة دولية لحماية الأماكن الدينية المقدسة في القدس. وكان واضحاً بالنسبة لرئيس حكومة «تل أبيب» أن الفلسطينيين بقيادة حماس والسلطة في رام الله، يتحملون لوحدهم «مسؤولية» دوامة العنف التي تشهدها الأراضي المحتلة؛ وكأن سلطات الاحتلال وقطعان المستوطنين بريئون براءة الذئب من دم يوسف بشأن كل ما يقع من تجاوزات قمعية وعنصرية وقتل وتدمير للبشر والحجر في أرض فلسطين.
ومن العجب العجاب أن تسعى «الضحية الأبدية»، التي تروّج لها الدعاية الصهيونية منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، إلى محاولة إعادة كتابة تاريخ المحرقة اليهودية من أجل تبرئة النازية، من خلال القول إن هتلر فعل ما فعله باليهود استجابة لدعوة مفتي القدس، وصولاً مع نهاية هذا التحليل المتهافت إلى اتهام ما يصفونه ب«التطرف الإسلامي» بالمسؤولية عما حدث ويحدث في الأراضي المحتلة.
ونستطيع أن نزعم في هذا السياق أن تذبذب الموقف الأمريكي بشأن القضية الفلسطينية يعكس صراعاً غير مرئي بين النخب السياسية الأمريكية التي ترى أن المصالح الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بالانحسار بشكل فعلي نظراً لتراجع أهمية النفط العربي في معادلة السياسة الأمريكية من جهة، واللوبي الصهيوني في أمريكا المدعوم من الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري وجماعة حزب الشاي، والذين ينظرون إلى العلاقة مع «إسرائيل» بأنها علاقة جد خاصة وملزمة بل ومقدسة بالنسبة للإيديولوجية التي يتبناها المحافظون الجدد من جهة أخرى. ومن غير المستبعد بالتالي في حال فوز الجمهوريين بمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، أن تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية الأطروحات «الإسرائيلية» بشكل كامل وتلجأ إلى الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة «لإسرائيل»، وربما تلجأ أيضاً إلى محاولة تصفية القضية الفلسطينية برمتها وبشكل كامل، مستغلة حالة الضعف العربي المتفاقمة نتيجة الحروب الأهلية المنتشرة هنا وهناك في أماكن عديدة من الجغرافيا العربية؛ وهي الحروب التي من غير المستبعد أن تزداد اشتعالاً من خلال تسريع القوى الغربية من وتيرة نشاطاتها الهادفة إلى تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية في المنطقة.
ويمكن القول عطفاً على ما سبق إن توقيت الانتفاضة الفلسطينية الجديدة جاء محرجاً للولايات المتحدة بشكل لافت، لأن هذا الحدث الفلسطيني البارز، منعها من التركيز على الملف السوري الذي اتخذ منعطفاً جديداً نتيجة للتدخل العسكري الروسي، الذي يسعى إلى التأثير في معادلة التوازنات بين أطرف الصراع؛ وكأن كيري ومن ورائه الإدارة الأمريكية يريد أن يخاطب أبطال الانتفاضة بالقول: أيها الفلسطينيون، الرجاء عدم الإزعاج إننا منشغلون في سوريا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"