بحكمته يختال عليهم

04:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

كل الخسائر التي تسبب فيها ترامب على الرغم من حكمته التي لا نظير لها، والتي لا نعلم ماذا كان سيحدث لو لم ينعم الله عليه بهذه القدرات الخارقة.
عندما أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب احتواء عاصفة الغضب الداخلي والخارجي التي أطلقها قراره المتسرِّع بالانسحاب من شمال شرقي سوريا، هدد تركيا بتدمير ومحو اقتصادها. وقال في تغريدته التي تضمنت التهديد، إنه سيفعل ذلك إذا قدّر بحكمته العظيمة التي لا مثيل لها، أن العملية العسكرية التركية تجاوزت الخطوط المقبولة.
غير أن حكمته تلك لم تنفعه في الحالتين؛ أي عندما اتخذ قراره دون تقدير دقيق للعواقب السياسية والعسكرية والنتائج الاستراتيجية بعيدة المدى المترتبة عليه، ثم حينما حاول تسويق القرار ومعالجة تأثيراته السلبية على الصعيدين الشخصي والقومي.
كان ترامب على علم تام بأنه بمجرد انسحاب قواته ستتقدم تركيا؛ بل لعل ذلك كان هو المتفق عليه، ومن ثم فلا معنى لتظاهره بالغضب بعد ذلك. الأرجح أن تهديداته وتحركاته الحالية تستهدف الضغط على أنقرة للإسراع في إنهاء عمليتها، بعد أن فوجئ بحدة الانتقادات سواء من جانب الحلفاء في أوروبا والشرق الأوسط، أو الشركاء الجمهوريين أو الخصوم الديمقراطيين. وربما يكون قد توقع ذلك ولكن لم يكترث له، بحكم تركيبته الشخصية الجامحة، واستهانته المعتادة بالآخرين، وقناعته الراسخة دون سند أو منطق بأنه على صواب دائماً.
المؤكد أن ترامب راهن على قاعدته الانتخابية اليمينية التي وعدها بإنهاء حروب أمريكا التي لا تنتهي بالخارج. ولديه يقين بأن تأييد هذه الكتلة سيضمن له الفوز في انتخابات العام المقبل أياً كان رأي وموقف السياسيين الذين لا يحترمهم ولا يكترث لآرائهم، إلا أنه من المؤكد أيضاً أن ترامب يرتكب خطأ جسيماً عندما يخاطر بخسارة حلفائه الجمهوريين الذين راعهم انفراده باتخاذ قرار بمثل هذه الخطورة، دون التشاور مع المؤسسة العسكرية، ودون الالتفات إلى ضرورات الأمن القومي.
وعندما تبدأ الحملة الانتخابية سيكون من الصعب عليه إقناع الأمريكيين بأنه يوفر لهم الأمن، بينما تسبب قراره في هروب مئات من عناصر «داعش» من سجون الأكراد في سوريا.
أخطأ ترامب مرة أخرى في حساباته عندما فتح جبهة جديدة في حربه الداخلية، بينما لم يحسم بعدُ معركته مع الديمقراطيين بشأن محاولات محاكمته في الكونجرس. وليس من الحكمة أن يوحد خصومه وحلفاءه على هذا النحو في هذا التوقيت.
وحتى لو جاءت الرياح في النهاية بما يشتهي واستطاع ترامب أن يحتوى كل العواصف ويفوز في الانتخابيات، وسيكون من حقه أن يختال بحكمته العظيمة على الجميع، إلا أن هذا الفوز الشخصي لن ينفي حقيقة أن بلاده تكبدت خسائر استراتيجية بسبب قراره الذي يعكس عدم قدرته على استيعاب ثلاثة عناصر جوهرية تشكل هيكل القوة الأمريكية. هذه العناصر كما يحددها تقرير لموقع «وورلد بوليتكس ريفيو»، هي ثقة الحلفاء الخارجيين في أمريكا، وقدرتها على الردع، وفاعلية استخدامها للقوة العسكرية كأداة لتحقيق أهداف سياسية.
ما قيل وكتب عن العناصر الثلاثة التي قوّضها ترامب كثيراً، لاسيما انهيار ثقة الحلفاء وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، وتنامي شكوكهم في التزام الولايات المتحدة بتعهداتها الأمنية، وتأثير ذلك في تماسك واستمرار التحالفات القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي ظلت حجر الزاوية في ضمان الأمن والاستقرار العالميين، كل هذا لا يستوعبه ترامب وإذا استوعبه فلا يبالي به.
لا تتوقف خسائر واشنطن عند هذا الحد، فهناك عناصر «داعش» الهاربين الذين قد يحيلوا المنطقة إلى جحيم مرة أخرى، ولا يُستبعد أن تمتد عملياتهم إلى أوروبا. كما أن خلوَّ الساحة السورية من الوجود العسكري الأمريكي يصب مباشرة في صالح روسيا وإيران، أضف إلى هذا أن الجيش السوري المدعوم من الدولتين ومن «حزب الله» أيضاً، استفاد من الفراغ الذي تركته القوات الأمريكية والكردية، وسيطر على مناطق لم يستطع دخولها منذ خمس سنوات.
كل هذه الخسائر وغيرها تسبب فيها ترامب على الرغم من حكمته التي لا نظير لها، والتي لا نعلم ماذا كان سيحدث لو لم ينعم الله عليه بهذه القدرات الخارقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"