براءة بوعزيزي من 11 فبراير

02:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسن العديني
‫‎‎ست سنوات من 11 فبراير/ شباط في اليمن ثقيلة، مرهقة، عنيفة ودامية. هل يتحمل أوزارها محمد بو عزيزي؟ ما كان لرجل أن يتسبب بعود كبريت في إشعال حريق يمتد مساحات شاسعة من حوله، وبعيداً عنه بآلاف الكيلو مترات. القادة الاستثنائيون في التاريخ فعلوا ذلك. نابليون وهتلر، وقبلهما قيصر واوكتافيوس والإسكندر وجنكيز خان والكثير ممن قلبوا الدنيا على أعقابها، أكان بدافع المطامع والرغبة في التوسع أم بباعث الإحساس بحمل رسالة ما؟. وقد كان نابليون محمولاً بفكرة مجد فرنسا حاملاً مبادئ ثورتها. إنه الاعتزاز بالذات وليس بالتفوق الطبيعي للدم الأزرق، كما عند هتلر. كلاهما انتهى مهزوماً؛ إذ اختار الثاني الانتحار، وأما الأول فقضى سنواته الأخيرة أسداً جريحاً في منفاه بجزيرة سانت هيلين، لكنه عاد صفحة باهرة في تاريخ فرنسا، وتاريخ الإنسانية، بعبقريته العسكرية، بثقافته ورعايته للفنون، بإبداعه في الإدارة العامة والخدمة المدنية.
لا أدري لماذا يغريني نابليون بونابرت، وإنما قصدت إلى أن إرجاع ثورات ما بدا ربيعاً عربياً إلى محمد بوعزيزي ليس دقيقاً، وإذا قيل ذلك، فقد يتساوى مع اعتبار ولي عهد النمسا في سراييفو سبباً في اندلاع الحرب العالمية الأولى. والحق أن حادث سراييفو كان بمثابة الصاعق، وكانت مواد التفجير قد تراكمت في المنافسة المحمومة بين الإمبرياليات الأوروبية على ثروات الشرق والجنوب في آسيا وإفريقيا. كان التاجر البريطاني الجشع قد سبق واستولى على عقد ومفاصل الطرق والممرات المائية ومواقع الثروة، وكان العسكري الفرنسي الشرس قد أخذ نصيبه بالمزاحمة والحرب، وكانت الامبراطورية العثمانية لم تزل تتمطى وتنهب خيرات الشعوب من بلغاريا والبلقان إلى شمال إفريقيا وحتى اليمن. كذلك أخذت هولندا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا ما اعتبرته حقاً في استغلال الضعفاء، وحتى بلجيكا البلد الصغير استولى على مناجم الألماس والنحاس والفوسفات في غرب القارة السوداء. وألمانيا قلب أوروبا والقوة الصناعية الجبارة أين نصيبها من الدنيا؟
هكذا أشعل الشاب «غافريلو برينسيب» فتيل الحرب الأولى بقوة الواقع، وليس بإرادة منه، لكن ليس بالمقياس نفسه النظر إلى ما فعله بوعزيزي، فقد سبقت الانتفاضات غضبته على نحو خاص في مصر واليمن. ففي مصر تأسست «حركة كفاية» في 2004، ودفعت الناس إلى الشوارع، لرفض سياسات مبارك والتجديد له وتوريث ابنه ثم نشأت تنظيمات بمسميات مختلفة، غرست كلها بذور مقاومة جديدة لا تحمل قسمات وملامح الأحزاب التقليدية. وفي اليمن نشأت منظمات شبيهة، بعضها استنسخ مسميات المنظمات المصرية أو تخفى ببراقع لا تنكر التقليد على طريقة معمر القذافي «لا ثورة بدون فقه ثوري» حتى لا يظهر استعارته مقولة لينين بحرفيتها «لا ثورة من دون نظرية ثورية». وهكذا في اليمن أراد تاجر متوسط الحال أن يلحق قطار السياسة في خضم ما بعد 11 فبراير، فدعا إلى تأسيس التيار الشعبي، ولم يفلح في أن يكون وجهاً مشوهاً لحمدين صباحي.
إذاً، فإن نذر الثورة ومقدماتها كانت قبل بوعزيزي في اليمن ومصر بالذات، وإذا لم تنجح في الدفع بجماهير عارمة إلى الشوارع، فقد استطاعت أن تشكل قلقاً للأجهزة، وأن توجه رسائل إلى العامة بأن السياسات مرفوضة، والتوريث غير مقبول. وفي اليمن كان التجمهر أسبوعياً كل ثلاثاء، والقضايا محل الاحتجاج لا تنقطع من الفساد في الاتفاقيات النفطية والصفقات التجارية إلى التهاب الأسعار، والتجاوزات الأمنية.
وكذلك فإن بوعزيزي بريء من تهمة إطلاق «الربيع»، والمسؤول الحقيقي عنها هي الأنظمة، التي غرقت في الفساد حتى ذروة الرأس من ناحية، وهذا ساقها إلى تخويفها لمواطنيها ، وإلى إزاحة القادرين منهم، والاعتماد على الأدنى كفاءة والأقل مقدرة، من المستعدين للخنوع والخضوع فوصل، إلى مراكز صنع القرار، «كتبة التقارير والمرتشون». وحين وصلت السياسة إلى أدنى درجات الانحطاط، انسكبت المرارة في قلوب الناس، فغضبوا وثاروا واندفعوا للتضحية. وكانت الثورة قد خاضتها الشعوب بالسليقة والتلقائية دون قيادة ثورية أو تنظيم ثوري وبرنامج يرسم ملامح المستقبل؛ ولذلك تاهت في الطريق، وتباينت مصائرها بين استبدال الصورة على الصفحة الأولى مع عودة شرسة، جريئة أو متخفية، للطبقة القديمة بمصالحها وبنفس وجهها أحياناً، وحروب أهلية أرهقت الشعوب وأدمتها وعذبتها.
اليمن تجربة قاسية يمكن تلخيصها في لون من الانتهازية عجيب. علي عبد الله صالح طالما كرس خطابه على أن شرعيته مستمدة من ثورة 26 سبتمبر/أيلول، لكنه بعد 11 فبراير/ شباط أرخى ستاره للأئمة، الذين انقضت عليهم الثورة، ولا فرق أن يكون سيدهم من أسرة الحوثي أو من بيت حميد الدين، ولا يهم أن يعيش الملك العجوز يحيى حميد الدين في دار السعادة بصنعاء أو يختبئ عبد الملك الحوثي في كهف بصعدة. المهم عندهم أن يتجرع اليمنيون العذاب والألم والدم في سبيل أن يحكموا ويسودوا.
لكن ما علاقة نابليون وهتلر واوكتافيوس في هذا العبث، لولا بوعزيزي البريء والمظلوم، الذي وضع أبسط رجل في قبالة رجال التاريخ؟
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"