بريطانيا.. من «حائط برلين» إلى «جدار بريكست»

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

بعد مرور 30 سنة على سقوط حائط برلين تحول خيار بريكست إلى جدار جيوسياسي يفصل بريطانيا عن محيطها القاري، ويجعلها أكثر عرضة للابتزاز الأمريكي.
راهنت المملكة المتحدة مع نهاية حكم مارجريت تاتشر وسقوط حائط برلين سنة 1989، على انتصار واضح لنموذج الحكم الليبرالي، وعلى الدخول في مرحلة «نهاية التاريخ» التي كانت تبدو وكأنها تسير في مصلحتها وتخدم تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، في سياق دولي جرى فيه تأكيد الهزيمة الساحقة للأنظمة «الشمولية». وبقدر ما تفاءلت بريطانيا بسقوط الستار الحديدي في شرق أوروبا، فقد شعرت حكومة المحافظين في لندن بقدر غير قليل من القلق من إعادة توحيد ألمانيا التي أصبحت في أقل من 30 سنة زعيمة الاتحاد الأوروبي بدون منازع، وهي التي تتحكم فعلياً في ملف مفاوضات خروجها من هذا الاتحاد، لتنتقل المملكة المتحدة بذلك من قمة نشوة الانتصار مع انهيار الحائط إلى مرارة العزلة والإحباط مع ارتفاع جدار بريكست.
يشير الباحث أوليفيي مارتي في هذا السياق إلى أن الخيارات الاقتصادية الأساسية للمملكة المتحدة التي جرى اعتمادها خلال ثلاثين سنة الأخيرة، ولّدت سخطاً شعبياً كبيراً أدى في اللحظة نفسها إلى إضعاف السلطة السياسية، وإلى تراجع تأثير الدولة في مصير أوروبا بكل توجهاتها الوطنية. فقد أفسدت الإرادة الشعبية التي تم التعبير عنها في استفتاء 23 يونيو/‏‏حزيران 2016، كل التوازنات التي اعتمدتها بريطانيا وكانت تستند على ثلاثة عناصر رئيسية، سعت من خلالها إلى المحافظة على وضعيتها كدولة عضو في الاتحاد بالشكل الذي يسمح لها بالاستفادة من الاندماج التجاري مع القارة دون التضحية بعناصر سيادتها القومية، وهي العناصر التي يمكن تلخيصها وفق الترتيب التالي:
1 إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
2 مفاوضات متواصلة على وضع خاص واستثنائي للمملكة داخل الاتحاد.
3 تثمين العلاقات التاريخية ما بين ضفتي المحيط الأطلسي.
وبالتالي، فإن خيار الخروج من الاتحاد لم يكن مجرد رفض لتدخل بروكسل في مسارات السياسة الداخلية للمملكة، ولا انزعاجاً شعبياً من تدفق المهاجرين القادمين من دول الاتحاد الأوروبي وخاصة من بولندا، ولكنه كان بمثابة تعبير كما يقول مارتي عن قلق وطني عميق نابع من الانتشار الكبير لحالات انعدام المساواة،إضافة إلى إحساس ضاغط بوجود أزمة هوية غير مسبوقة بين مختلف فئات الشعب البريطاني.
ويمكننا في هذا السياق، أن نقسم مسيرة المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي إلى ثلاث محطات أساسية، من سنة 1989 إلى سنة 2016 وما تلاها من جولات مفاوضات صعبة بين بروكسل ولندن، من أجل فهم أفضل لعلاقة بريطانيا بجوارها الأوروبي ولتوقع تطورات مسار بريكست.
بدأت المحطة الأولى من سنة 1989 إلى سنة 1997، وتميزت بسيطرة النزعة التاتشرية على السياستين الداخلية والخارجية لبريطانيا، واستطاعت خلالها تاتشر وبعدها خليفتها في زعامة الحكومة وحزب المحافظين جون ميجور، أن تحافظ على الاستثناء البريطاني وعلى خيار عزلة لندن الأيديولوجية داخل الاتحاد الأوروبي، وأن تقنع بروكسل بضرورة توسيع الاتحاد نحو دول شرق القارة، من أجل توفير فضاء تجاري أوسع لمنتجات المملكة المتحدة .
وعرفت المحطة الثانية من سنة 1997 إلى سنة 2010، سيادة شبه مطلقة للنزعة البليرية في ظل حكم حزب العمال بزعامة توني بلير وجولدن براون، والتي تميزت بقبول بريطانيا لكثير من الاتفاقيات الأوروبية التي هدفت إلى ترسيخ التكامل الاجتماعي بين دول الاتحاد، وتميّزت هذه المحطة في المقابل بابتعاد المملكة عن خيارات السياسة الخارجية لفرنسا وألمانيا نتيجة مساندة بلير المطلقة للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
أما المحطة الثالثة والأخيرة من 2010 إلى 2016، فقد تميزت بازدهار لافت للتيار الشعبوي في المملكة في فترة حكم الليبراليين والمحافظين بزعامة ديفيد كاميرون، الذي أفضت قراراته المتعجلة إلى عزلة لندن داخل مؤسسات بروكسل، وإلى فوز المشككين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي في استفتاء بريكست.
أما الآن وبعد مرور 30 سنة على سقوط حائط برلين وانتصار القيم الليبرالية التي دافعت عنها بريطانيا، فإن الأزمة الاقتصادية ومعضلة الهجرة الأوروبية الداخلية، وتعاظم المشاكل المرتبطة بتمثلات الهوية القومية، وازدياد حدة الصراع بين النخب السياسية، تمثل في مجملها عناصر من شأنها أن تحوّل خيار بريكست إلى جدار جيوسياسي يفصل بريطانيا عن محيطها القاري، ويجعلها أكثر عرضة للابتزاز الأمريكي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"