بعد «كورونا».. غد آخر

01:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

ألقى «كورونا» ظلالاً جديدة على سكان الكوكب، مغيّراً في عاداتنا، ومبدلاً سلوكياتنا، ومشككاً فيما كنا نفعله بالأمس، فارضاً تغييره اليوم؛ أوقفت الإنسانية الهمس واللمس والعناق، وأصبح ينبغي عليك أن تتعامل مع الآخر وبينك وبينه مساحة فراغ لا تقل عن متر، وإلا فإن التزام البيت هو طوق النجاة. لا صلوات في الجوامع ولا قداديس في الكنائس ولا ارتياد للمولات ولا لدور السينما ولا المسارح ولا زيارات للأقارب، لا سفر ولا سهر، والأعراس مؤجلة والمؤتمرات ملغاة والندوات غير مرغوبة.
من كان لا يعبأ بالنظافة الشخصية أصبحت هاجسه، فالكل يعيش في حالة شك بأن اللعين «كورونا»، يمكن أن يصله من أي شيء حوله، ابتداء من الهواء الذي يتنفسه، وليس انتهاء بالملابس التي يرتديها، وبينهما الكثير والكثير من أدوات الاستعمال اليومي في الشارع والعمل والبنك ووسيلة المواصلات... إلى آخره.
لأجل الحياة توقفنا عن الحياة، ولأجل الوقاية عزلنا أنفسنا داخل البيوت، وأوصدت مدناً الأبواب، ولم تجد دول عدة من مفر سوى فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال والإغلاق والتقوقع داخل الذات.
أصاب الناس هلع التخزين، إقبال غير مسبوق على المواد الغذائية وأدوات التنظيف. مظاهر حرب تعيشها الإنسانية؛ بل بالفعل هي حرب مع عدو خفي، مجهول الملامح، يباغت الإنسان من حيث ووقتما يريد.
نعم، أصبحت له سلطة وسطوة علينا جميعاً، لكن هذا لا يعني أنه انتصر، أو سينتصر؛ بل سيلقى الهزيمة وسيندحر وقد بدأ تراجعه وانكساره في معركة الصين، وستتوالى الانتصارات في المعارك الأخرى.
لا حل سوى انتصار البشرية على هذا الفيروس اللعين، والتاريخ يؤكد أن إرادة الحياة هي التي تنتصر دائماً على فيروسات الموت من الإنس والجن والكائنات الدقيقة.
نعيش مظاهر حياة الحروب، ونخوض حرباً كونية دفاعاً عن حقنا في الحياة، وقد علمنا التاريخ أنه عقب كل حرب عالمية خاضتها الإنسانية وُلد عالم جديد، ومن الطبيعي أن يكون عالم ما بعد الحرب على «كورونا» مختلف عما قبله.
الحرب العالمية الأولى، خلقت دولًا لم يكن لها وجود وأفنت كيانات كانت موجودة، وجاءت بعصبة الأمم لتكون صاحبة الكلمة في القضايا الدولية، والحرب العالمية الثانية أفرزت عالماً مختلفاً، تغيرت مراكز القوة العالمية وانتقل القرار من أوروبا إلى أمريكا وبدأ الصراع يحتدم بين الشرق والغرب، وبين الاشتراكية والرأسمالية، واستبدلوا عصبة الأمم بالأمم المتحدة وتوابعها.
بعد انتهاء حرب «كورونا» سنفيق على عالم جديد، عالم سيعاني اقتصادياً هزات عدة، بعد أن فرض الفيروس وقف الإنتاج في معظم المجالات، وأصاب حركة الطيران بالشلل وضرب السياحة العالمية في مقتل، وهوى بأسعار النفط، وكبد البورصات خسائر غير متوقعة. كل ذلك وغيره ستكون له عواقبه على الاقتصاد العالمي، ندعو الله أن تحتملها البشرية وتستوعبها.
خلال أزمة «كورونا» خفت صوت الدبلوماسية الأمريكية التي لم تشغل بالاً بما يهدد الوجود البشري، وارتفع صوت الدبلوماسية الصينية على الرغم من أن بلادها مركز الوباء، وبمجرد أن أفاقت من هول الأزمة بدأت تمد يد المساعدة لدول منكوبة، فهل سيترك ذلك ظلالاً جديدة على مراكز القوى بعد انتهاء الحرب؟
عالم ما بعد «كورونا» ينبغي أن يعيد النظر في أولوياته ويمنح البحث العلمي الميزانيات الكفيلة بأن تفرز أبحاثاً تجنب الإنسانية تكرار مثل هذه المأساة، فعلى الرغم من أن «كورونا» فيروس مستجد وليس جديداً، إلا أن علماء الدنيا كلها وقفوا أمامه عاجزين عن تقديم اللقاح الفعال للقضاء عليه، ولم يكن أمام الساسة سوى قرارات العزل والحجر والتعطيل، ولم يكن أمام الأطباء سوى النصائح بالتزام النظافة ووصف المسكنات ووضع الحالات الصعبة على أجهزة التنفس.
ليتنا نخرج من هذه الحرب مدركين أن الإنسان إن لم يرحم الطبيعة فلن ترحمه، وهو ما يفرض مزيداً من الاهتمام بقضايا وجودية مثل الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
إذا أردنا عالماً يحتوينا ويحقق فيه أولادنا وأحفادنا أحلامهم، علينا أن نعيد النظر ليكون عالم سلام ووئام، وعلم وبحث، عالم لكل البشرية وليس لفئة منها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"