بلد غني وشعب يشكو الضائقة

02:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

نجحت القوى النافذة والطاقم الحاكم في العراق في جعل الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار الماضي مجرد مناسبة سياسية عابرة وبلا أثر رغم صعود تيار مقتدى الصدر وتراجع تيار نوري المالكي. إذ سرعان ما تم استيعاب الصدر واستدراجه لعقد اتفاقات وحتى تحالفات مع قوى بنى خطابه الانتخابي والسياسي على أن تياره هو البديل لها. وأمام ذلك فقد الرجل وتياره «سائرون» وزنهم السياسي في الشارع، وإن كان ما زال محتفظاً بهذا الوزن في بازار المساومات على تشكيل حكومة جديدة.
أما الإجراء الآخر الذي جرى اعتماده لامتصاص نتائج الانتخابات وجعلها بلا أثر، فهو القرار بإعادة الفرز يدوياً لأوراق الاقتراع، ما يعني فرز أكثر من عشرة ملايين ورقة، وهي عملية عرضة لارتكاب الأخطاء، وقابلة للتدخل أو التأثير فيها. علاوة على أن اللجوء إلى الفرز اليدوي يشير إلى ضعف تجهيزات الإدارات المعنية وتخلفها عن مواكبة العصر الرقمي، رغم كل الوعود التي أطلقت للتطوير الإداري.
وقد بات الجمهور العراقي يدرك بتجربته الحسية أنه يراد للانتخابات ونتائجها أن تمر مرور الكرام، وأن لا تمس معادلات السلطة والحكم والنفوذ، مع ما لذلك من تبعات ملموسة على حياة الناس وشؤونهم اليومية والعملية. ولذلك لم يبدُ مفاجئاً أن تتجدد الاحتجاجات الشعبية على تردي الخدمات الأساسية، بما فيها توفير التيار الكهربائي ومياه الشرب. وقد لوحظ أن الاحتجاجات اندلعت في البصرة والنجف، وهما من المناطق التي تمثل قاعدة اجتماعية للحكم والحكومة، إضافة إلى امتداد موجة الغضب إلى محافظتي ميسان والناصرية. ولم يجد المسؤولون ما يقولونه إزاء موجة السخط هذه سوى تكرار الوعود بأن ينصلح الحال، وأن تجد مشاريع التطوير طريقها إلى التحقيق.
وبينما تمثل محافظة البصرة خزاناً رئيسياً لثروة النفط، فإن هذه المحافظة تشكو انقطاع الكهرباء في ذروة فصل الصيف، إضافة إلى ضآلة الكميات المتاحة من مياه الشرب في بلاد دجلة والفرات وشط العرب، وفوق ذلك كله تشكو المحافظة كما سواها من المحافظات من استشراء البطالة في صفوف القوى العاملة التي تزيد عن 20 بالمئة في أوساط فئة الشباب.. ومن المفارقات أن الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط تعتمد بالدرجة الأولى على عمالة أجنبية لا وطنية. ولأن شيئاً لا يتغير في بلد الرشيد سوى ارتفاع المؤهلات الخطابية للمسؤولين، فإن الاحتجاجات الدورية قد أخذت هذه المرة طابعاً عنيفاً بإحراق الإطارات والتهديد بالاستيلاء على الموانئ وعلى مرافق حكومية. وهو ما حمل رئيس حكومة تصريف الأعمال حيدر العبادي للذهاب إلى عاصمة الجنوب أملاً بتطويق موجة السخط، ونثر المزيد من الوعود الوردية للمحتجين وللوجهاء.
ويسترعي الانتباه اقتصار التحركات الشعبية الأخيرة على مطالب اقتصادية تتعلق بالماء والكهرباء، وفقدان فرص العمل، تماماً كما يجري في الدول الفقيرة التي لا تتوافر فيها ثروات طبيعية كافية. وبهذا نجح الطاقم الحاكم عبر سياسته الاستئثارية وتبعيته للخارج، بجعل بلاد الرافدين في مصاف الدول الفقيرة التي يعاني شعبها ضائقة معيشية متشعبة بلا مخارج أو حلول حكومية. بينما تدور الأرقام المتعلقة بالفساد وهدر المال العام في فلك المليارات. وقد لوحظ أن المرجعية الشيعية العليا قد أبدت تأييدها للاحتجاجات وما تحمله من مطالب واقعية ملحة واجبة التنفيذ واصفة مناطق الجنوب بأنها «الأكثر بؤساً وحرماناً».
وبينما تتواصل موجة الغضب وتنتقل من محافظة إلى أخرى، فإن القوى الفائزة في الانتخابات تنشغل في المساومات بينها على توزيع الحصص والمقاعد في الحكومة المقبلة، ومن دون أن تتخذ من دروس الاحتجاجات هادياً لها أو دافعاً لتشكيل حكومة كفؤة عابرة للطوائف، ومؤهلة لتأمين خدمات حيوية لا غنى عنها، بعد طول تسويف من الحكومات السابقة بما فيها الحكومة الحالية المنتهية ولايتها.
من المؤسف حقاً أن يبقى هذا البلد العزيز الذي تتوافر فيه ثروات طبيعية كبيرة وثروة بشرية غنية يدور في حلقة مفرغة، مما ينعكس بالسوء على حياة ملايين العراقيين، ويسهم في اضطراب حبل الأمن، وفي تبدد الآمال بنهوض دولة دستورية حديثة تمثل جميع مواطنيها ومناطقها، وأن تحافظ الهجرة على وتيرتها، وكذلك نسبة العائدين إلى وطنهم (وهذه نسبة غير مرئية) تماماً كما يحدث في الدول المنكوبة، فيما تصريحات المسؤولين تتغنى بالإنجازات وبالمشاريع العملاقة التي لا ترى النور، فيما يفتقد العراقيون النور نفسه (الكهرباء).

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"