بوتين وأردوغان.. بين القيصر والسلطان

02:17 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي
تنبع أهمية المقارنة ما بين شخصيتي بوتين وأردوغان، من منطلق كونهما ينتميان إلى حقل ثقافي وحضاري يملك سمات مشتركة ومتشابهة إلى حد بعيد تتعلق بذهنية الاستبداد الشرقي وعبادة الشخصية، وهي سمات يصعب على الفكر الغربي في أغلب الحالات تفهمها أو التعامل معها بموضوعية وحيادية، لأن الغرب يرفض في العادة افتتان العامة، بالشخصيات التي تحمل عناصر مشتركة قائمة على استمالة الجماهير باستعمال خطابات تعتمد على توظيف المخيال الجماعي المرتبط بالدين وبعناصر القومية والهوية الوطنية.

ولا يمكن لمقارنة من هذا النوع أن تغفل عن الاختلاف الحضاري والديني بين الشخصيتين، فهناك سياقات حضارية وأنثروبولوجية يجب أن تؤخذ في الحسبان، لكن مثل هذا الحذر المنهجي لا يمنع في كل الأحوال من رصد بعض النقاط المشتركة بين الشخصيتين اللتين تملكان طموحاً طاغياً من أجل بسط هيمنتهما على الحكم والاستئثار بالسلطة، في محاولة من طرفهما إلى استعادة أمجاد الماضي، فهناك في تركيا وروسيا حنين لا يمكن إغفاله إلى زمن الإمبراطوريات، بالرغم من اختلاف المرجعيات المؤسِّسة لهذا الحنين. ويمكننا أن نزعم أن مكر التاريخ يلعب دوراً حاسماً في توجيه الأحداث وفي رسم نهاياتها المفتوحة على كل الاحتمالات.
يشترك بوتين وأردوغان في كونهما يمتلكان طموحات غير محدودة من أجل البقاء في السلطة، حيث إن بوتين لا يخفي رغبته في الاحتفاظ بمنصب الرئاسة إلى غاية نهاية العهدة الرابعة التي لن تنتهي إلا مع سنة 2020، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن أردوغان الذي يتواجد في الحكم منذ 20 سنة، إذا ما احتسبنا فترة رئاسته لبلدية اسطنبول، لكنه بالنسبة لاحترامهما للقانون ولنصوص الدستور، فإن بوتين يبدو أكثر انضباطاً لأنه رفض أن يعدِّل الدستور سنة 2008 من أجل الحصول مباشرة على عهدة رئاسية ثالثة وفضّل أن يتبادل الأدوار مع صديقه ديمتري ميدفيديف، الذي حكم روسيا من سنة 2008 إلى سنة 2012.
أما أردوغان فلا يخفي جرأته على قوانين الجمهورية التركية، فقد دفع نوابه إلى تعديل القانون من أجل السماح له بالدخول إلى البرلمان وتولي رئاسة الحكومة سنة 2003، متجاوزاً بذلك الحظر القانوني الذي كان يمنعه من ممارسة حقوقه السياسية لمدة 5 سنوات بعد خروجه من السجن، وقام أردوغان بعد ذلك بتعديل القانون المتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية، ليكون أول رئيس تركي يُنتخب بالاقتراع المباشر، وهو الآن بصدد التحضير لإجراء تغيير جديد يُحوِّل بموجبه نظام الحكم في تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، ويتهمه خصومه السياسيون بأنه يقوم برمي أقفال الدولة العلمانية في تركيا تباعاً في سلة المهملات، وعليه فمن غير المستبعد أن يصل في نهاية المطاف إلى تحقيق مجمل أحلامه خلال السنوات القليلة المقبلة.
ويتميز المسار الدراسي لكل منهما بالتواضع، حتى وإن كانت مرجعيات بوتين الفكرية أكثر صلابة على مستوى التكوين السياسي والأمني، على خلاف أردوغان الذي يبدو سطحياً في مقاربته لمجمل القضايا السياسية والدبلوماسية، وإن كان أردوغان يتفوق على بوتين في المجال الاقتصادي الذي يمثل نقطة قوّته الأساسية وربما الوحيدة. كما يشترك الزعيمان أيضاً في كونهما وظّفا الظروف الصعبة التي مرت بها كل من روسيا وتركيا من أجل الوصول إلى السلطة بطرق ملتوية تغلب عليها السمة الميكيافيلية، بالرغم من قناعتنا بأن ميكيافيلية أردوغان يغلب عليها الطابع الفطري لأن علاقته بالفلسفة الغربية تبدو شبه منعدمة، على خلاف بوتين الذي تشير مصادر حياته الشخصية إلى أنه قرأ طوماس هوبز وجون لوك والفيلسوف الألماني كانط، وإذا كان أحدهما يدافع عما يمكن تسميته بالقيصرية الجديدة، فإن الآخر يكافح بشراسة كبيرة من أجل تأسيس ما يمكن تسميته بالعثمانية الجديدة. وبالتالي فإن بوتين وبعد أن يئس من إمكانية دفع أوروبا إلى النظر نحو الشرق بدل توجهها الحالي نحو الغرب الأطلسي، فإنه يسعى إلى تكوين تحالف أوراسي جديد كبديل للاتحاد السوفييتي المنهار، لذلك فقد قال في أحد تصريحاته المشهورة:«لا قلب لمن لا يأسف على تفكك الاتحاد السوفييتي، أما من يريد أن يعيد إحياء هذا الاتحاد فلا عقل له». ويتقاسم الرجلان أيضاً الرغبة في التحالف مع القوى اليمينية في كلا الدولتين، إذ إن بوتين يسعى إلى التأثير في كل الأحزاب اليمينية في أوروبا التي تحوّلت إلى أكبر مدافع عن سياسته في القارة العجوز، بينما يسعى أردوغان من جانبه إلى التحالف مع القوى الإسلامية المحافظة في كل الدول العربية الإسلامية، ويقوم بالدفاع بشكل مستميت عن حركة الإخوان في مصر. ويبدو أن كليهما يطمح إلى تطوير نموذج اقتصادي رأسمالي جديد ينافس في كفاءته وانتشاره نموذج الرأسمالية الغربية، أما بالنسبة لنموذج مشروع المجتمع الذي يتبنيانه، فمن الواضح أن النموذج الأردوغاني أكثر ارتباطاً بقيم التقليد والعتاقة من بوتين، حيث لا يخفي أردوغان رغبته في إعادة النظر في المكاسب الحداثية التي حققتها المرأة التركية، ويرفض صراحة أن يساوي بينها وبين الرجل.
وبالرغم من نقاط التشابه الكثيرة بينهما فإن هناك عناصر كثيرة تفرِّق ما بينهما، فأردوغان يمارس نوعاً من التقيّة السياسية لا يمارسها بوتين، فهو بالرغم من اعتراضه على وصفه بأنه إسلامي محافظ، وتأكيده في مناسبات عديدة على أنه مسلم ديمقراطي قريب من توجهات الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، إلا أنه في واقع الأمر يحمل أفكاراً متشددة سبق له أن أفصح عنها في مناسبات عديدة، وقد أفضت به بعض هذه الأفكار إلى السجن، وبخاصة عندما صرّح قائلاً سنة 1999، اعتماداً على مقاطع لشاعر تركي: «سنجعل المآذن حِراباً لنا، وسنتخذ من القباب قبعات لنا، وستكون المساجد ثكناتنا والمؤمنون جنودنا»، واتهمته العدالة التركية نتيجة لذلك بالتحريض على الكراهية، وبمجرد خروجه من السجن قرّر أردوغان تجنب المواجهة المباشرة مع المؤسسة العسكرية التركية، وتخلى عن حزبه السابق (السعادة) ولجأ إلى تأسيس تنظيم سياسي جديد يحمل اسم «حزب العدالة والتنمية». والفرق الجوهري الأساسي بينهما هو أن أحدهما، وبالرغم من الضعف الاقتصادي الذي تواجهه دولته فإنه لم يتردد في الدفاع عن مصالح بلاده في مواجهة الغرب، ويعمل الآن جاهداً من أجل ترسيخ لبنات عالم متعدد الأقطاب، بينما يظل الآخر وفياً لتحالفاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وحتى مع «إسرائيل»، بالرغم من حركاته المسرحية التي كان يقوم بها بين الفينة والأخرى من أجل الحصول على دعم المتعاطفين معه من تيار الإسلام السياسي.
ويمكن القول في الأخير إنه بين تطلعات قيصر روسيا وأحلام سلطان العثمانية الجديدة توجد فروق شاسعة، تفصل ما بين دولة عظمى تُسهم الآن في رسم الخطوط العامة للسياسة الدولية، وقوة إقليمية ما زالت تبحث داخل ركام التاريخ وتفاصيل الجغرافيا الشائكة عن هوية سياسية جديدة، وبالتالي فإن الفرق الأساسي الذي لا يمكن تجاوزه هو بين من يملك أجندات وطنية ودولية يريد تجسيدها لإبقاء دولته ضمن قائمة الكبار، وبين من يُخيّل له أنه قادر على تعديل أجندات الآخرين بهدف توظيفها لخدمة مصالح من يقاسمونه حلم أو لنقل وهم الإمبراطورية الجديدة.

لقد أساءت تركيا الأردوغانية لجيرانها العرب خلال بضع سنين أكثر مما أساءت تركيا الكمالية لمحيطها الإقليمي خلال عقود من الزمن، حيث تهدّد تركيا استقرار كل من مصر وليبيا، فضلاً عن دورها المشبوه في دعم التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق، ونستطيع أن نزعم في نهاية هذه المقارنة، أن أردوغان لم يحسم اختياره بعد، بين خيار السلطان وخيار الخليفة، كونه يرى نفسه سلطاناً بينما يحلم مناصروه بأن يتربع على عرش الخلافة التي ما زالت تداعب مخيلة الكثيرين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"