بين التطرف والتخلف عند العرب

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
الياس سحّاب
اختلطت كثير من الأوراق السياسية، والاجتماعية الثقافية عند العرب المعاصرين في السنوات الأولى من مطلع القرن العشرين، بتفاقم أمر ظواهر التطرف لديهم، مما أصبح يشكل تهديداً للمجتمعات العربية المعاصرة بل للدول العربية المعاصرة .
ومنذ أن تفاقم أمر هذا التطرف الديني والثقافي والاجتماعي الذي أدى الى بروز ظاهرة المنظمات الإرهابية باسم الدين، حتى دخل العرب في دوامة حضارية أبشع ما فيها، أنهم أصبحوا تائهين لا يعرفون كيف يفسرون أمر هذه الظواهر، وأمر استفحالها في شؤونهم السياسية والاجتماعية والثقافية، بل لا يعرفون حتى تحديداً واضحاً لمعرفة أسباب هذه الظواهر، وأفضل وانجع اساليب التخلص منها، قبل أن يستفحل أمرها فتقضي على فرص العرب في التقدم .
من أبرز النظريات التي ظهرت في تفسير أسباب ظهور ونمو هذه الظواهر المتطرفة، العودة الى مرحلة الوجود السوفييتي في أفغانستان والصراع الأمريكي- الروسي الذي اشتعل لإطاحة هذا النفوذ واستبداله بنفوذ أمريكي، بل إن هناك من ذهب الى ابعد من ذلك في التفسير، فركز على مرحلة أفول الاستعمار القديم البريطاني والفرنسي، الذي كان طوال مدة وجوده في الأرض العربية والآسيوية، عاملاً للتفرقة الدينية والثقافية، تطبيقاً لشعار "فرق تسد"، الأمر الذي ترك أبشع الآثار في المنطقة العربية نفسها، بل أدى بالاستعمار البريطاني في منتصف القرن العشرين، ألا يرحل عن أرض مستعمرته الغالية الهند، الا بعد أن قسمها إلى هند وباكستان، باسم التمايزات الدينية في المجتمع الهندي .
أما فيما يخصنا نحن العرب بالذات، فإن التفسير الذي عرف حتى الآن رواجاً في تفسير بروز ونمو ظواهر التطرف هذه، هو التفسير الذي يرجع أسبابه كل المصائب إلى الخطة الأمريكية في تحريك الكوامن التطرف الديني، لا لشيء إلا لتوظيف هذه الكوامن، في محاربة النفوذ الروسي، وإخراجه من أفغانستان .
بعبارات أكثر دقة وتركيزاً، فإن هذا التفسير، وحيد الجانب، يؤكد أن السياسة الاستعمارية الأمريكية هي وحدها المسؤولة عن تحريك عش الدبابير النائم في مجال التطرف الديني . ومع أن هذه النظرية تفسر جزءاً لا بأس به من أسباب هذه الأزمة الحضارية التي تخبط بها العرب، فإنها تهمل جوانب كثيرة أخرى لا تقل أهمية وخطورة عن هذا الجانب، وتفسر لنا الأسباب الدينية التي جعلت السياسة الاستعمارية البريطانية والفرنسية قديماً، والأمريكية حديثاً، تنجح إلى هذا المدى في تحريك هذه الكوامن، التي هي في الأساس جزء من مكوناتنا التاريخية والاجتماعية، قبل ظهور المطامع الاستعمارية الخارجية . فالأجدى لنا أن نعترف بأن تاريخنا العربي، قد عرف منذ قرون طويلة تناحراً دائماً بين ظواهر الاعتدال والتطرف في مجالات الدين والفكر والثقافة . الحضارة الاجتماعية، وكانت الغلبة تتنقل من عصر الى عصر بين التطرف والاعتدال، فتطغى ظواهر إحداهما على الآخر في الحياة العربية .
ولو لم يكن التطرف كامناً تاريخياً في مكوناتنا الاجتماعية والفكرية، لما استطاعت أي قوة استعمارية خارجية أن تحرك هذه الكوامن الدينية، وتوظيفها لمصالحتها، وضد مصلحة المجتمعات العربية .
إن هذا الاعتراف حاجة عربية ماسة، حتى يدرك المسؤولون العرب في العصر الحديث، أن الصراع الأمني مع قوى التطرف والارهاب لا يكفي وحده لاقتلاع هذه الظواهر من جذورها، إذ لا بد أن نسارع، إلى جانب الاحتياطات الأمنية، إلى فتح كل الابواب المغلقة أمام المجتمعات العربية للدخول دخولاً قوياً وكاملاً ونهائياً إلى صميم العصور الإنسانية الحديثة، حيث نرى بوضوح أن مثل هذه الظواهر لم تعد تشكل في مجتمعات الأمم الموغلة في التقدم والحداثة، إلا ظواهر استثنائية، تمتلك المجتمعات البشرية المتقدمة القدرة على معالجتها والتخلص منها، بدل الاستسلام لها، وتركها مرتعاً لمؤامرات القوى الخارجية الطامعة، تستغلها كيفما يحلو لها .
فالتطرف الذي بات ظاهرة تهدد الأمن العربي منذ مدة، ليس إلا إحدى كوامن التخلف العربي المستشري طويلاً . لا خلاص لنا من ظواهر التطرف، إلا بالخلاص من ظواهر التخلف بكل ما في التخلف من معان سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"