تبعات سوء التقدير وضعف ثقافة المواطنة

02:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

نبّهتُ، في مقال سابق في هذا المنبر، إلى ما ينطوي عليه تجاهل مجتمع ودولة لمشكلاتهما من خطورة. وسُقت لذلك مثالاً مازال طرياً في الأذهان، وما فتئت عقابيله الكارثية تنهمر علي كياناتنا من غير انقطاع، هو مثال زلزال «الربيع العربي» والتصدعات والشروخ التي أحدثها في العمران السياسي والاجتماعي والقيمي العام. إن أياً من المشكلات الكبرى في مجتمعاتنا لا تقبل الاحتواء بالترحيل أو التجاهل، ومَن قد ينجح في تأجيلها أو الالتفاف عليها، اليوم، سيصطدم بها في الغد، لا محالة، إن لم يوفّر لضغوطها وتحدياتها حلولاً ناجعة. ولقد يكون اجتراح الحلول أمراً عسيراً وصعباً، وربما تنوء بحمله ممكنات الدولة والمجتمع، ولكن عسره وصعوبته ليسا مسوّغيْن للإحجام عن معالجة ما يقبل المعالجة، وعن التخفيف من وطأة ما تتطلّب معالجته زمناً أطول وجهداً أجهد وإمكانات أوفر، وليس من خيار آخر أمام المجتمع والدولة غير التسلّح بالشجاعة الكافية للقيام بكل ما في الوسع القيام به بغية ألاّ يستفحل أمر المسكوت عنه من المشكلات؛ بحيث يُمسي متعذّراً، بل مستحيلاً، استيعابه في مراحل لاحقة.
ليس تزيّداً أن نقول إنه ما من خيار آخر إلا المبادرة إلى فتح ملفّات المشكلات المسكوت عنها واحتوائها، عبر حلول واقعية، قبل أن تستفحل فتؤدي مفاقمتها إلى امتحان كبير للمجتمع والأمة؛ ذلك أن وجه الخطورة في الصمت عن المشكلات تلك لا يكمن، فقط، في أن جمهور المتضرّرين منها يعظم مع الزمن، ويرتفع معدّل مطالباته، ومعه ترتفع نبرة الاعتراض ولغته فتتولّد من ذلك قدرة على الضغط الداخلي أكبر، وربما تتعاظم معها الشروخ والاصطفافات والتقاطبات داخل المجتمع، وإنما الوجه الأخطر في ذلك الصمت هو استثمار القوى الخارجيّة في تلك المشكلات، وفي جمهورها الداخلي، وحيازة موطئ قدم لها في الداخل، وبالتالي، تسخير مطالب المطالبين في مشروعها المعادي، وتكثيف الضغط على الدولة والمجتمع لتحقيق مبتغاها. ليس افتراضياً هذا السيناريو، أو من أضغاث الكوابيس، إنه الأرجح في كل الاحتمالات، اليوم، أعني في حقبة من العولمة انهارت فيها الحدود والسيادات، وفقدت فيها شؤون الداخل حُرمتها الوطنية فباتت متاعاً مشاعاً لكل من يملك القدرة على التسخير واغتنام الفرص، وخاصة القوى الدولية والإقليمية الكبرى التي عثرت في قضايا الداخل العربي على ضالتها، ووجدت في توسلها وتسخيرها أقرب المسالك إلى تحصيل بغيتها، وبأقل الأكلاف المدفوعة: على ما تشهد على ذلك مداخلاتها في شؤوننا بمناسبة أحداث «الربيع العربي».
علينا أن نعترف بأن تجاهل المشكلات، وضرب طوق من الحجب والسرية عليها، لا يكون- دائماً- مسلكاً مقصوداً وفعلاً سياسياً موعى به، بل كثيراً ما يتولد من سوء التقدير. قد يذهب الاعتقاد برجل الدولة، أو صاحب القرار، إلى أن مشكلة ما لا تستحق انتباهاً يقظاً متحفزاً، أو انصرافاً إلى الاحتفال بأمرها جدياً؛ إما لأنها صغيرة، أو لأن المعلومات التي تحت تصرفه لا تقدم عنها بيانات مقلقة. ولعل أكثر التجاهل مَأتاه من الاستصغار هذا، المبني على سوء التقدير، أي على التشخيص الخاطئ للحالة المعروضة. وليس في هذا الذي نقوله تبرئة لصنّاع القرار، في البلاد العربية، ولا ينتمي إلى إحسان الظن بأكثرهم، وإنما فيه بعض الاعتراف الموضوعي بما لسوء التقدير من حصة في أخذ سياسات الدول إلى أخطاء كثيرة.
هذه واحدة، الثانية أن علينا أن نُقلع عن عادة قبيحة، في يومياتنا السياسية العربية، أفسدت معنى السياسة ومعنى المسؤولية في بلداننا. والعادة التي أعني هي استسهال وضع المسؤولية، في كل ملمة، على الدولة وسلطاتها وتبرئة ساحة الذات. وتقترن بها عادة أقبح هي التعويل على الدولة (السلطة) وحدها في جبه المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية وإعفاء المجتمع من أي دور في النهوض بالأمور العامة. هذا كسل صريح وتواكل وتملّص من أداء الواجبات الوطنية، والذين يأتونه؛ من المجتمع المدني والأحزاب والرأي العام، لا يعرفون معنى السياسة، على التحقيق، بما هي ملكية عامة، ولم يتشبّعوا بما يكفي بثقافة المسؤولية وقيمها، ناهيك عن أن معنى المواطنة، في وعيهم ضيق؛ بحيث لا يستوعب غير الحقوق فيما هو يطرح عنه الواجبات !
وبعد؛ إذا كان لِ«الربيع العربي» من حسنات -على وفرة سيئاته- فإن واحدة من أظهرها جميعاً تكمن في أنه نبهنا إلى أم المشكلات التي تمتحن مصائرنا وبقاءنا: مشكلات السلطة وتوزيع السلطة والحريات؛ مشكلات الفقر والتهميش وتوزيع الثروة؛ مشكلات الهدر والفساد وغياب الرقابة والمحاسبة؛ مشكلات الاندماج الاجتماعي وهشاشة بناه؛ مشكلات الأمن الاجتماعي والسلم المدنية؛ مشكلات استقلالية قرار المعارضات ومنظمات المجتمع المدني. إنها عينُها المشكلات التي تفجّرت، دفعة واحدة، بمناسبة اندلاع أحداث ذلك «الربيع».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"