تجربة تونس الديمقراطية تتصدر عربياً

04:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
من المقرر أن ينتهي فجر اليوم (الاثنين) اقتراع التونسيين في الداخل والخارج على الرئيس المقبل للبلاد وذلك في أول انتخابات رئاسية تعددية يشهدها هذا البلد، بعد أن كان الرئيس السابق والمرشح الحالي المنصف المرزوقي قد صعد إلى سدة الرئاسة بالتوافق بين مكونات مجلس النواب . المرزوقي يقود حزب المؤتمر الذي حقق نتائج متواضعة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لكنه يحظى بدعم ضمني من حركة النهضة وتيارات مستقلة وفي بعض المناطق المهمشة في جنوب البلاد .
ينافسه على الرئاسة باجي قائد السبسي الذي أسس "حركة نداء تونس" بعد انتصار الثورة، ويضم هذا الحزب مزيجاً من ليبراليين ووطنيين وعلمانيين وأعضاء سابقين في حزب التجمع الدستوري، وقد حصد الحزب نتائج مهمة في الانتخابات التشريعية جعلته يتصدر الكتل الفائزة، كما تقدم السبسي على منافسه في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بفارق 6 في المئة من الأصوات، وقد حرص كل من المرشحين على القيام بحملات انتخابية مكثفة في المناطق التي نال فيها المرشح المنافس أعلى الأصوات، فزار السبسي مناطق الجنوب بما فيها مسقط رأس محمد البوعزيزي، فيما شملت جولات المرزوقي مناطق الشمال، مع ايلاء اهتمام خاص بالعاصمة تونس التي يتركز فيها ثقل الأصوات والإقبال على الاقتراع .
هذه الانتخابات تشد الأنظار إليها، فهي تتم وفق أفضل المعايير الدولية للمباريات الديمقراطية باشراف هيئة مستقلة للانتخابات وبرقابة منظمات دولية وعشرات الآلاف من المراقبين الداخليين الذين يتبعون كلا المرشحين وعشرات منظمات المجتمع المدني . كما تتميز سياسياً بانعدام التدخلات الخارجية باستثناء تهديدات أطلقتها جماعة داعش الإرهابية التي اعترف اثنان من أعضائها باغتيال الناشطين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهيمي . وتأتي هذه الانتخابات وفاء لخارطة طريق توافقية ابتدأ تنفيذها بوضع دستور للبلاد ثم إجراء انتخابات تشريعية، وتلتها الانتخابات الرئاسية هذه .
ومن الزاوية السياسية أيضًا فالمرشحان حزبيان يلتزمان ببرنامج حزبي معلن للجمهور، بما ينأى بهذه الانتخابات عن الشخصنة والفردية، وينتمي كل من المرشحين لحزب جديد تشكل بعد انتصار ثورة الياسمين، وفيما تأخذ حملة المرشح المرزوقي على السبسي أن حزبه (نداء تونس) يضم أعضاء سابقين في حزب التجمع الدستوري الذي كان يحكم البلاد كحزب أوحد في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي بما يهدد بإعادة انتاج النظام القديم، فإن حملة السبسي تركز على أن المرزوقي يتمتع بدعم جهات محافظة ومتزمتة مشكوك بولائها للخيار الديمقراطي، وأن عهده وفّر بيئة لبروز جماعات متطرفة لأول مرة في تاريخ البلاد، وقد لوحظ أن الحملة الانتخابية للدورة الثانية اتسمت بعنف لفظي شديد ولم تخل من احتكاكات، علاوة على شيطنة كل مرشح للآخر .
واقع الأمر أن الحظوظ المتقاربة للمرشحين تضفي سخونة ملحوظة على هذه الانتخابات في الأوساط المسيسة والمناطق المهمشة، غير أن حداثة نشأة الحزبين المتنافسين، اللذين ينتمي إليهما المرشحان لا توفر عمقاً اجتماعياً كبيراً لهذه المنافسة في أوساط عريضة غير مسيسة من الطبقة الوسطى، لكنها تشكل بالتأكيد تمريناً بالغ الأهمية لهذه الأوساط في ممارسة الخيار الانتخابي الحر بعيداً عن أية إكراهات . وسوف تكون حظوظ المرشحين في الفوز مرهونة في المقام الأول بمدى إقبال مؤيديهما على الاقتراع . وقد بلغت نسبة الاقتراع في الدورة الأولى في اكتوبر/تشرين الأول الماضي أكثر من 64 في المئة، غير أنها انخفضت لأقل من 30 في المئة خارج تونس . على أن التصويت في الداخل (نحو خمسة ملايين ناخب) هو الذي سوف يحسم المنازلة، إذ لا يتعدى عدد الناخبين خارج البلاد مئة ألف أغلبهم يقيمون في المهجر الأوروبي . وتعتبر نسبة الاقبال في الدورة الأولى جيدة، قياساً إلى التجارب الأوروبية المتقدمة، والتوقعات تشير في معظمها إلى أن هذه النسبة سوف ترتفع في الدورة الثانية الحالية .
والآن فإنه أياً كان الفائز في هذه الانتخابات، فمن الواضح أنه سيحظى بمعارضة منظمة قوية . المرزوقي إذا فاز سيواجه بكتلة كبيرة من اليساريين والليبراليين والعلمانيين والوطنيين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني، وكل أنصار الحداثة وبالذات في المدن، علاوة على المعارضة البرلمانية الكبيرة لحركة نداء تونس وأحزاب مؤتلفة معها، وأكثر من ذلك سيجد المرزوقي نفسه في حالة تعارض مع الحكومة التي سيكون للأغلبية البرلمانية ممثلة بحركة نداء تونس حصة الأسد فيها . أما السبسي في حال فوزه فسيواجه معارضة في المناطق المهمشة وفي أوساط ناشطي الثورة ومن يؤمنون بعروبة تونس وطابعها الإسلامي، إضافة أيضاً إلى معارضة برلمانية تقودها على الخصوص كتلة "حركة النهضة" . وهنا تكمن أهمية هذه الانتخابات في كونها تقطع مع خيار الحزب الواحد والانفراد بالحكم، واقصاء المعارضة وتؤسس بالفعل لعهد جديد يخضع لرقابة برلمانية وحزبية واجتماعية، ويستند إلى مبدأ المشاركة السياسية واحترام التعددية الحزبية والاجتماعية والثقافية، وقد بدأت أولى ثمار هذا العهد تتضح في وضع دستور للبلاد، وفي الانتخابات التشريعية التي جرت في ربيع العام الجاري .
من تونس انطلقت شرارة "الربيع العربي" قبل نحو أربعة أعوام، ومن بلاد الياسمين تتبلور تجربة ديمقراطية تقوم على اختيار الشعب لممثليه في أفضل أجواء ممكنة وبالتقيد بأفضل المعايير، وذلك كله يمثل مصدر إلهام لمشارق العالم العربي ومغاربه .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"