تجنيد الداخل للقيام بوظيفة الخارج

05:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

هناك ظاهرة فردية تبدأ بأن يرتكب الفرد عادات سلوكية خاطئة أو مشينة، لكن مع مرور الوقت والاستمرار في ارتكاب تلك العادات ينقلب السلوك إلى حاجة نفسية تصعب مقاومتها والتخلّص منها.
لا تقتصر هذه الظاهرة على الأفراد، إذ تصاب بها الجماعات والمجتمعات أيضاً. وهذا ما حدث في بلاد العرب لكثير من الجهات عبر الخمسين سنة الماضية.
فبعد تراجع وضعف النظام الإقليمي القومي العربي، ممثلا في الجامعة العربية ولقاءات القمة العربية الدورية، والذي كان متماسكاً إلى حد ما ولديه الإرادة لاتخاذ قرارات كبرى لا يخرج عليها أحد من الدول أو القادة، والذي ظل كذلك من أوائل خمسينات القرن الماضي إلى أوائل السبعينات، وذلك بسبب تراجع وتفكك الزّخم الشّعبي القومي العربي الهائل.. بعد ذلك الضعف والتراجع أصبحت كل دولة عربية تتصّرف باستقلالية تامة وبمعزل عن ثوابت والتزامات النظام الإقليمي العروبي المشترك.
كانت البداية في المقولة الشهيرة بأن تسعاً وتسعين من أوراق وملفات المنطقة هي في يد الولايات المتحدة. كان ذلك إيذاناً بتسليم مقدرات المنطقة العربية، وبالتالي مقدّرات كل قطر عربي، في يد الخارج.إذ ما عاد للإدارة الوطنية أو الإرادة القومية المشتركة وجود فاعل في الحياة السياسية العربية.
هنا بدأ سلوك بعض الدول يتمظهر في شكل استجداء الخارج لإضفاء الشرعية الدولية على أنظمتها. لكن الخارج الاستعماري لابد وأن يطلب الثمن. وكانت الأثمان تختلف من دولة إلى دولة ومن مناسبة إلى مناسبة أخرى.
كانت محددات الثمن هي مقدار الحاجة الخارجية لاستباحة ثروات الوطن العربي وساكنيه.ولذلك تراوحت الأثمان حسب الحاجة، من بينها اتخاذ خطوات تطبيعية تراكمية معلنة أو غير معلنة مع العدو «الإسرائيلي»في فلسطين المحتلة.
كانت مسيرة رجوع تدريجي للاستعمار إلى أرض العرب، بعد أن ضحّت شعوب تلك الأرض بالغالي والرخيص، عبر العشرات من السنين، لإخراج الاستعمار الظاهر والخفي من كل وطنها العربي.
ذاك السلوك المشين من قبل البعض قاد ويقود إلى مزيد من تنوّع السلوك غير السّوي وغير المحتشم.
ليس بالغريب، إذن، أن ينتقل البعض إلى المرحلة الجديدة التي تصدمنا يومياً تفاصيلها. إنها مرحلة خدمة القوى الخارجية من خلال القيام بالوكالة بكل النشاطات التي تريد تلك القوى منا أن نقوم بها بدلًا عنها.
وقد تعددت أنواع تلك النشاطات إلى حدود مخجلة، يصل بعضها إلى حدود الإضرار بأمة العرب أو المساهمة قي تدمير هذا القطر العربي أو ذاك.
لقد رأينا المال العربي يشتري السّلاح لميليشيات الجهاديين التكفيريين، المجانين البرابرة ويدرب الألوف منهم على يد الاستخبارات الأجنبية المأجورة، وذلك ليقوموا بغزو ذلك القطر العربي أو احتلال مساحات شاسعة من أرض قطر عربي آخر. كان ذلك شراء بالوكالة لتنفيذ مطلب لهذه الجهة الأجنبية أو تلك.
لقد رأينا إعلام بعض الأنظمة العربية وهو يقوم بالوكالة لتشويه هذا النشاط التحرري في هذا القطر. ولم يستح بعض الإعلاميين التابعين لبعض الأنظمة، كزبونيين انتهازيين، من حتى تبرير نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وذلك تنفيذاً بالوكالة لمطالب بعض الجهات اليهودية العالمية.
القيام بحروب أو تخريب بالوكالة ليس بالجديد. لقد رعاه الغرب ضد الاتحاد السوفييتي ورعاه الاتحاد السوفييتي ضد الغرب إبان الحرب الباردة. وقد استعملته المخابرات الأمريكية كسلاح ضد كل حركات التحرر في أمريكا الجنوبية. وإبان الحراكات الهائلة في العالم الثالث من أجل الاستقلال مارسته قوى الاستعمار في كل بلد تقريبا من بلدان العالم الثالث، وذلك من خلال تجنيد عملائها في داخل تلك البلدان لرفض الاستقلال والحرية.
في أغلب تلك الحروب والتخريب بالوكالة كانت الجهة العميلة المجندة تقوم عادة بمهمة واحدة وفي بلد واحد ولمدة زمنية محدودة تنتهي بفشل أو نجاح، ويقف الأمر عند ذلك الحد.
لكن ما يميّز ما يحدث في بلاد العرب هو قبول من يقومون بالوكالة، كدعم لحروب أهلية أو تجييش لجهاديين مشبوهين برابرة أو تناغم وتفاهم مع «إسرائيل» وغيرها، قبولهم بالقيام بدورهم في عدة أقطار عربية في وقت واحد، وبصور متناقضة غريبة، وباستمرارية لا تتوقف عند حدود، وبضمير بارد لا يراعي أية قيم إنسانية أو التزامات قومية أخوية، وبعدم الخوف من وقوع كوارث في الحجر والبشر.
كل ذلك يدلّ بالفعل على وجود حالة نفسية مرضية مدمرة للنفس وللغير تجعلها مماثلة لمرض الشخصية السابكوباثية التي لا تهدأ نيرانها إلاّ بممارسة الشر، متذرعة بحجج وهمية وبتبريرات مختلفة.
لكن تلك المأساة تضاعفت في المدة الأخيرة عندما نجح الخارج في تجنيد مؤسسات مدنية عربية وشخصيات عامة لتقوم بأدوار وظيفية تخدم أهدافه الاستعمارية.
ولذلك،فالبلاء يتفاقم ويزداد تعقيداً وخطراً. وإن لم تستطع الشعوب العربية، وعلى الأخص شبابها وشاباتها، الوقوف في وجه ناشري وممارسي هذا الوباء، فإن الأمة العربية مقبلة على كوارث أين منها كوارث الماضي؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"