ترامب.. العودة إلى الداخل

02:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

المعارضة العنيفة لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا لا تعكس حقيقة الأجواء السائدة في الفضاء السياسي الأمريكي. ترامب لا يسبح ضد التيار، وقراره لا يصطدم بالمزاج العام السائد، والرفض المتزايد للتورط في قضايا العالم وهمومه وأزماته، بما فيها بل في مقدمتها مشاكل الشرق الأوسط.
القراءة الواقعية للخريطة السياسية في أمريكا سواء على مستوى السياسيين أو الخبراء تفضي بسهولة إلى هذه الحقيقة.
العودة إلى الداخل أو على الأقل تقليص الاهتمام بالخارج مطلب عام، واتجاه قوي في أمريكا حتى لو أعطت المعارضة الصاخبة لقرار ترامب انطباعاً مخالفاً. شعاره الأثير «أمريكا أولاً» أصبح سياسة مطبقة، وهو عنوان واضح على هذا الاتجاه منذ انتخابه، وبالتالي بات تفويضاً من الشعب للرئيس للمضي على هذا الطريق. ولا يفعل ترامب حالياً سوى تنفيذ هذا العقد المبرم بينه وبين مواطنيه.
وقد أشرنا في الأسبوع الماضي إلى هذه الحقيقة قبل أن يعلن ترامب عن الانسحاب من سوريا. واستشهدنا بدراسة مهمة صادرة عن معهد بروكنجز الشهير أكدت حتمية تقليص التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط بسبب ما وصفته بتراجع أهميته بالنسبة للولايات المتحدة بما في ذلك ثروته البترولية.
تعلل الدراسة ذلك بثلاثة عوامل: أولها أن الصراعات التي هددت المصالح الأمريكية في الماضي كانت مع دول بينما هي الآن صراعات وتهديدات مصدرها جماعات إرهابية.
طوال حقبة الحرب الباردة فرضت المواجهة مع الاتحاد السوفييتي على أمريكا حضوراً سياسياً وعسكرياً مكثفاً في الشرق الأوسط لتأمين إمدادات النفط من ناحية، وتقويض النفوذ الشيوعي من ناحية أخرى. اليوم تغير هذا الوضع مع اختفاء الخطر الأحمر. ومن الطبيعي أن تفرض التهديدات الجديدة الصادرة عن جماعات إرهابية مثل «داعش» و«القاعدة» وسائل وأشكالاً مختلفة للتصدي لها، وهو ما لا يتطلب الاحتفاظ بالحشود العسكرية الكبيرة في المنطقة.
ويعتبر المحللون الأمريكيون أو جانب كبير منهم أن الحروب الأهلية التي يشهدها العديد من بلدان المنطقة سبب إضافي يبرر الانسحاب العسكري الأمريكي، على أساس أن وجود حشود كثيفة غير مجدٍ في مواجهة هذا النوع من الأزمات. فضلاً عن أنه لا مبرر حقيقياً يجعل أمريكا تضحي بأرواح جنودها وتستنزف مواردها لضمان استتباب الأمن في هذه الدولة أو تلك، أو لإعادة السلام الاجتماعي والوئام الداخلي إليها. هذه كلها قضايا لا تعني أمريكا ولا تتحمل مسؤوليتها، ومن الأولى أن يقوم بها أصحاب الشأن أنفسهم. المدافعون عن هذا الرأي يدللون على صحة موقفهم بالوضع في سوريا والعراق حيث لم يفلح الوجود الأمريكي في إعادة الأمن والاستقرار إلى البلدين.
السبب الثاني لتراجع أهمية الشرق الأوسط أمريكياً هو تزايد أهمية مناطق أخرى وتحديداً آسيا التي أصبحت من وجهة النظر الأمريكية تتقدم على الشرق الأوسط في منظومة استراتيجية الأمن القومي بمنظوره العالمي.
وسبق أن عبّر الرئيس السابق باراك أوباما بوضوح عن هذا التطور المهم وهو نفس الموقف الذي يتبناه ترامب. وقد لعب الصعود الاقتصادي الهائل لبلدان آسيا، والمنافسة والتهديدات الصينية لأمريكا وحلفائها دوراً حاسماً في خلق هذا الواقع الجديد. كذلك فإن الطموحات الروسية الجامحة أجبرت صانعي القرار في واشنطن على إعادة ترتيب أولوياتهم، ومن ثم إعادة تقييم التهديدات القائمة والمحتملة وحجمها ومصادرها، وهي عملية انتهت إلى تراجع الاهتمام بالشرق الأوسط.
وأخيراً السبب الثالث لتراجع أهمية المنطقة، هو الخريطة الجديدة لأسواق الطاقة العالمية التي تشكلت ملامحها ببطء وثبات لسنوات وأسفرت عن انخفاض الوزن النسبي لأهمية النفط القادم من المنطقة. الأسباب لذلك عديدة أهمها غزارة المعروض عالمياً وظهور بدائل ومصادر إضافية ولا سيما في الدول المستوردة وأهمها أمريكا نفسها.
خلاصة ما تقوله الدراسة في هذا الجزء أن على أمريكا ألا تترك الشرق الأوسط، ولكن يجب أن تقلص وجودها العسكري وتدخلها في صراعاته ومشاكله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"