ترامب المرشح بات من الماضي

03:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

مفاجأة انتخاب دونالد ترامب ضربت العالم كله كإعصار مجنون، من سياسيين ومراقبين ومحللين ومعاهد استطلاع للرأي. فرانسوا هولاند قال قبل أسبوعين من الانتخاب بأنه سيكون هناك في البيت الأبيض امرأة. لم يكن وحده من توقع ذلك في أوروبا حيث كان ثمة إجماع على هذا التوقع.
كل السياسيين والصحفيين، ما خلا اليمين المتطرف والشعبوي، انحازوا علناً لهيلاري كلينتون. ومعاهد استطلاع الرأي في الولايات المتحدة نفسها، وهي مرموقة ومعروفة بعلميتها وصرامتها وموضوعيتها، أجمعت قبل ساعات قليلة من بدء فرز صناديق الاقتراع بأن أمل ترامب في الفوز لا يتخطى العشرة في المئة، في حين أن احتمالات فوز كلينتون تقارب التسعين في المئة.
وهذا يعني بأن علينا جميعاً أن نعيد النظر بكل الأدوات المعرفية التي نستخدمها في التحليل السياسي، وعلى مراكز استطلاع الرأي أن تعيد النظر بمناهجها وتقنياتها وحتى الفائدة من وجودها. سوف يمر وقت طويل قبل أن يتفق المحللون على أسباب وقوعهم في مثل هذا الخطأ. فقد اتبع ترامب استراتيجية انتخابية فيها الكثير من الارتجال والكلام البذيء الصادم، وفشل في المناظرات الثلاث التي واجه فيها المرشحة كلينتون، ووقف ضده معظم زعماء العالم والفنانين والصحفيين وأصحاب الرأي في أمريكا وخارجها، ووصل الاعتراض عليه إلى الحزب الجمهوري نفسه.
مهما يكن من أمر فإن الشعبوية هي التي انتصرت في الولايات المتحدة وهذا بحد ذاته يدعو الى وقفة تحليلية عميقة للمجتمع الأمريكي الذي يرسل رسالة واضحة صادمة للعالم كله بأنه لم يعد يريد «الملتنغ بوت» وبأنه في العمق أمريكي أبيض بروتستانتي (واسب) لا يريد هذا «السيستم» القائم والذي تجسد هيلاري كلينتون استمراريته واستمرارية «الاستابليشمنت»، أي أنه ببساطة يتعطش لتغيير حقيقي انقلابي بكل معنى الكلمة، وهو تغيير عجز أوباما عن تحقيقه رغم أن معركته الانتخابية حملت هذا الشعار عشية الولاية الأولى ثم الثانية.
الرئيس أوباما الذي وصل على أنقاض الإخفاقات البوشية وعد بسياسات تقطع مع عهد بوش الابن ووفى بوعوده. لكنه مارس سياسة خارجية اتهمت بالرخاوة والتردد والغموض، فتراجعت هيبة بلاده في العالم وتقدمت روسيا والصين في الساحة الدولية على حساب القوة الأعظم، وهذا ما عمل ترامب على استغلاله ولكن بأكثر الأساليب سوقية وفظاظة وخفة.
الفرق بين إدارة بوش والإدارة الترامبية المقبلة أن الأولى كانت تملك عقيدة وتبني على فلسفة معينة (شتراوس) وأيديولوجيا محافظة جديدة وبرنامج منشور ومعلن وواضح. ترامب لا يملك برنامجاً سياسياً ولا رؤية ولا يفقه في السياسة شيئاً فهو على الأرجح ترشح للانتخابات الرئاسية لرغبته في أن يسرق الأضواء ويحظى بالشهرة ويحتل منصباً عالمياً مهماً ليس أكثر. لكن المشكلة أن ترامب بات رئيس أقوى وأغنى دولة في العالم، وهي تملك من السلاح النووي وغيره ما يمكنها من تدمير الكرة الأرضية برمتها. وبذلك فإن الزلزال الانتخابي يضرب العالم كله وليس القارة الأمريكية وحدها، والعالم كله يحبس أنفاسه اليوم، فالرجل عصي على التوقع والنظام السياسي في الولايات المتحدة رئاسي والكونغرس اجتاحه الجمهوريون.
لكن ترامب لن يستطيع إجبار المكسيك على دفع تكاليف جدار يكلف ١٦ مليار دولار ولا إعادة النظر باتفاقات التبادل الحر مع نصف دول العالم تقريباً، فهذا يتطلب سنوات طويلة من المفاوضات الشاقة، ولن يستطيع فرض تعرفة جمركية مرتفعة على بضائع الصين التي تملك أوراقاً مالية واقتصادية مهمة في وجه واشنطن، ولا طرد الملايين من المهاجرين في بلاده ولا.. ولا. إلخ. خطابه المعتدل إلى حد كبير بعد الفوز وبعد لقائه بالرئيس أوباما يدل على أنه قادر على الاستدارة الكاملة في لحظة واحدة وبأنه سوف يصطدم بواقع سبق وتعلم منه رؤساء كثيرون في أمريكا وخارجها بأن الخطاب الانتخابي شيء والممارسة القيادية شيء آخر مختلف تماماً. على الأرجح أن يختلف ترامب الرئيس مع ترامب المرشح، لكن من المؤكد أن ارتدادات هذا الزلزال الذي شكله وصوله إلى البيت الأبيض ستفعل فعلها في السنوات الأربع المقبلة، في الولايات المتحدة قبل غيرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"