تركيا.. وقشة الاقتصاد «الأردوغاني»

01:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أيمن علي*

مع بداية القرن الحالي كان وضع الاقتصاد التركي من أسوأ ما يمكن ووصل الانهيار في قيمة الليرة، مع نسبة التضخم الهائلة، إلى حد اضطرار أنقرة إلى شطب أصفار من العملة لتمكين الناس من التعامل بها.
نادراً ما يبدأ المرء كلامه بخلاصة، أو استنتاج قبل أن يقدم حججه ومسوغات تلك النتيجة، لكن في موضوع الاقتصاد التركي (وكل ما يتعلق بتركيا أردوغان)، يجوز التخلي عن الحكمة التقليدية، لأن الوضع فعلاً لا يستقيم مع النظريات الراسخة، والنماذج المتعارف عليها. قد يعتبر البعض ذلك أمراً إيجابياً بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنما «يواجه الرأسمالية والإمبريالية العالمية بعصا السلطانية المستوحاة من تاريخ تركيا العثمانية»، وفي المقابل قد يعتبر آخرون ذلك سياسة خرقاء تتجاهل واقع وحقائق الاقتصاد العالمي والاعتماد المتبادل الذي أدت إليه موجة العولمة، وتجاهل لما هو متعارف عليه اقتصادياً بشكل أقرب للتبجح الادعائي. وليس القصد هنا الحكم المبتسر، ولكن النظر إلى الوضع الحالي للاقتصاد التركي (الذي لا يمكن فصله عن السياسة، كما هو الحال مع بقية دول العالم)، ومحاولة تلمس مشكلته، وتأثيرها القريب والبعيد، ليس في تركيا فحسب، وإنما في محيطها القريب، والاقتصاد العالمي ككل.
بداية، ورغم احتلال أخبار تدهور سعر صرف الليرة التركية، والحديث عن الخلاف بين أنقرة وواشنطن، وما تضمنه من عقوبات تجارية لعناوين الأخبار الرئيسية في الفترة الماضية، يمكن القول ببساطة إن مشاكل تركيا الاقتصادية لم تبدأ بنزاعها مع أمريكا، أو بمضاربات على عملتها (كما يحلو لبعض مريدي أردوغان أن يشبهوا وضع تركيا بوضع ماليزيا إبان أزمة العملات الآسيوية نهاية العقد قبل الأخير من القرن الماضي). ولا حتى لها علاقة بالتحولات الدراماتيكية في السياسة التركية التي أعقبت ما وصفت بمحاولة انقلاب عام 2016، وتركيز أردوغان السلطة في يده وحده، وتسريح مئات الآلاف من وظائفهم في كل قطاعات الدولة. ورغم أن كل ذلك قد يسهم في تضخيم صورة مشكلة تركيا الاقتصادية، ويؤثر بالتأكيد في علاقاتها الاقتصادية مع العالم (أخذاً في الاعتبار العامل النفسي في مجال الاستثمار والثقة بثبات الحكم وعقلانيته)، إلا أن جذر المشكلة يعود إلى أكثر من خمس سنوات، ويرتبط أيضاً بالوضع الاقتصادي للاقتصادات الناشئة بشكل عام.
مع بداية القرن الحالي كان وضع الاقتصاد التركي من أسوأ ما يمكن، ووصل الانهيار في قيمة الليرة، مع نسبة التضخم الهائلة، إلى حد اضطرار أنقرة إلى شطب أصفار من العملة لتمكين الناس من التعامل بها. وكان المستثمرون يخشون ذلك البلد، ولا يقبل عليه أحد، إلا بغرض السياحة لجمال طبيعته، وامتداد شواطئه مع قلة كلفة زيارته وقتها. وفي مطلع القرن (عام 2001) تولى مسؤولية الاقتصاد التركي مسؤول كبير سابق في البنك الدولي، هو كمال درويش، تمكن من تطبيق قواعد اقتصادية تقليدية لضبط التضخم عبر رفع أسعار الفائدة وإعادة هيكلة كثير من القطاعات، والأهم أنه حصل من صندوق النقد الدولي على حزمة قروض مكنت تركيا من ضبط اقتصادها الكلي، وبدء مسيرة نمو جيدة. وعندما صعد رجب طيب أردوغان للسلطة رئيساً للحكومة في 2003 قرر أن يدير البلاد اقتصادياً بطريقة إدارته لاقتصادات بلدية إسطنبول التي تولى رئاستها قبل فترة حكومة نجم الدين أربكان التي لم تعمر في السلطة. وحدثت فورة في رهان الأموال الساخنة و«الاستثمارات الذكية» على تركيا جعلت أرقام النمو تتصاعد لكن من دون سند من ترسيخ أسس إنتاج حقيقية في البلاد. وحدث الغليان في قطاعات خدمية، كقطاع البنوك، وأصبح نمو القطاع العقاري المحرك الأساسي لنمو الناتج المحلي الإجمالي. ولعل الجميع يذكر إعلانات مطورين عقاريين خليجيين وغيرهم عن بيع العقارات في شواطئ تركيا ومواقعها السياحية الأخرى بتسهيلات هائلة.
صحيح أن ما بدأه كمال درويش أتى ثماره بشكل مكن تركيا من تجاوز الأزمة المالية العالمية في 2009/2008 حتى إن مؤشر البورصة التركية وقتها كان متفرداً في الصعود، بينما بقية المؤشرات في العالم تهبط. وأذكر نقاشي مع بعض مستشاري الحكومة التركية وقتها، الذين كان يتباهون بالوضع، وتحفظي على أن الاستثمار الأجنبي المباشر، ربما لا يدعم خطط الإنفاق الحكومي المتفائلة، وقد تتشكل فقاعة دين يصعب التعامل معها إذا انفجرت وسط سياسات البلاد النقدية غير التقليدية. لكن فورة «التميز» عن بقية العالم لم تكن تسمح بالكلام العاقل وقتها. وبالفعل بدأ أردوغان، كرئيس للحكومة أو للدولة، في القضاء على استقلال البنك المركزي الذي رسخه كمال درويش (وغيره من الاقتصاديين الواعين الذين انفضوا تباعاً عن السلطة الأردوغانية التي لم تعد تسمع إلا نفسها على الأقل اقتصادياً). وأخذ الرجل يجادل بأن رفع أسعار الفائدة هو سبب التضخم، وليس أن الفائدة هي أداة للسياسة النقدية لضبط التضخم، كما يدرك أي تلميذ له علاقة بالاقتصاد. وتصور أيضاً أن خصخصة قطاعات اقتصادية سيستمر كشريان دخول رأسمال أجنبي للبلاد، وأن علاقاته الخارجية ستمكنه من التغطية على الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد - هذا إن كان يسمع لمن يشير إلى تلك الاختلالات أصلاً.
وتجمعت عدة عوامل ساعدت أردوغان على استمرار الوضع الجيد بعد السنوات الخمس الأولى لحكمه، وربما حتى عام 2013 حين بدأت المشاكل الكامنة في الاقتصاد تظهر، وأهمها بالطبع، أن أسعار الفائدة المنخفضة جعلت الشركات والأفراد في حالة شره اقتراض في الوقت الذي تدهور فيه معدل الادخار إلى مستوى متدن. ولم تدم أيضاً استفادة تركيا من العقوبات على إيران بتمكين طهران من التعامل مع العالم عبرها التفافاً على العقوبات الأمريكية والدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل التوصل إلى الاتفاق النووي قبل أكثر من عامين. وليست القضية التي يحاكم فيها مصرفي تركي (شريك لابن أردوغان) في نيويورك بتهم انتهاك العقوبات على إيران إلا رأس جبل ثلج لما حصلته تركيا من تسهيلها التفاف إيران على العقوبات وقتها. ولعل البعض يذكر كيف استفادت تركيا من تجارة ذهب مع إيران وقتها (نحو 30 مليار دولار) لعدم قدرة إيران على الوصول للنظام النقدي العالمي واستعاضتها عن ذلك بالذهب.
والتفاصيل كثيرة، لكن في الإجمال انتهت العوامل التي ساعدت على استمرار الفورة (التي استندت إلى منطق اقتصادي في البداية كما فعل كمال درويش ومن معه ليشطب أردوغان ذلك فيما بعد) حتى بدأ المنحنى بالهبوط منذ 2011 تقريباً، ووصل نقطة واضحة في 2013. صحيح أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي التركي ما زال كبيراً جداً، ويزيد على ضعف متوسط نمو الاقتصاد العالمي (حول 7 في المئة)، إلا أن ذلك لا يعبر سوى عن استمرار غليان القطاع العقاري، وخطط الإنفاق الحكومي الهائلة. ولعل أكثر القطاعات عرضة للضرر الآن هي القطاعات التي استفادت في بداية الفورة الاقتصادية قبل عقد ونصف العقد، وتحديداً القطاع المصرفي، والقطاع العقاري، وبعض القطاعات الخدمية الأخرى.
لم يكن إذاً، هبوط الليرة والخلاف مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، سوى القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد التركي الذي تظهر مشاكله البنيوية منذ 2013. وليس ما يحدث الآن سوى بعض أعراض وضع الاقتصادات الناشئة عموماً، التي تجلس على فقاعة دين قد تنفجر في أي لحظة لتقود الاقتصاد العالمي إلى أزمة أخطر من الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمن.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"