تسوية مع عهد سابق

02:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
نجحت تونس على مدى الأعوام الخمسة الماضية في تفادي الخضات السياسية، وحافظت على مسارها الديمقراطي وذلك بالرغم من حوادث جسيمة وقعت كاغتيال معارضَين سياسيَين اثنين. وقد جاء هذا النجاح ثمرة مساومات سياسية بين قوى فاعلة: النهضة وحزب نداء تونس، ومع التقاء أركان الحكم والأحزاب السياسية على مكافحة الظاهرة الإرهابية وهو ما حقق نتائج باهرة.
هذه الأيام يعيش بلد أبي القاسم الشابي على وقع أزمة سياسية بإقرار البرلمان ما سمي قانون المصالحة الإدارية. ويتعلق هذا القانون بنحو 1500 موظف حكومي في النظام السابق تلاحقهم اتهامات بالفساد. وكانت رئاسة الجمهورية أحالت القانون منذ نحو عامين إلى مجلس النواب، حيث تمت مناقشته طوال تلك الفترة وإدخال تعديلات عليه ولدرجة يقول معها حزب النهضة الذي أيد القانون بأغلبية نوابه، إن القانون في صيغته الأخيرة هو أقرب إلى مفهوم العدالة الانتقالية. علماً أن بنود القانون تقر بأن المصالحة تتجاوز مقتضيات العدالة الانتقالية. وقد نال القانون موافقة الأغلبية الكاسحة من مجلس النواب، فيما يتحرك بعض النواب المعارضين لإبطال القانون عبر آليات دستورية. ولا يشمل القانون جرائم تقاضي الرشى أو الاستيلاء على المال العام. فيما يقضي القانون بإعادة أموال المعفوّ عنهم من الخارج وإيداعها لدى جهات مختصة والتصريح بأية أموال في الداخل، مع أداء مبلغ إضافي يضاهي خمسة بالمئة وذلك نظير الأرباح أو المكاسب المفترضة.

وبهذا فإن المشروع يقوم في جوهره على تحقيق أهداف ملموسة تتمثل في إعادة جملة الأموال إلى الخزينة العامة، من أجل إسقاط التهم وكذلك الإعفاء من الضرائب. وهو أمر أقرب إلى ما حدث في مصر خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث كان الهدف وما زال إعادة الأموال التي تم جنيها والاحتفاظ بها بغير وجه حق. على أن أحزاباً معارضة في تونس مثل الجبهة الشعبية ما زالت ترفض القانون، رغم الإنجاز الذي تحقق بتمريره في مجلس النواب، وترى فيه ممالأة للفساد، وتستغرب كما قيل كيف أن حكومة يوسف الشاهد ترفع شعار مكافحة الفساد، وتسمح في الوقت نفسه للفساد (على حد تقديرها) بالمرور. وتستند الأحزاب المعارضة بين أمور أخرى على موقف منظمة الشفافية الدولية التي عارضت المشروع. وليس معلوماً إذا كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قد يستفيد من هذا القانون، علماً أن أحكاماً قد صدرت بحقه غير مرة في قضايا مماثلة. فيما يقضي القانون بإبطال كل المتابعات القضائية لمن يتقدمون لإجراء الصلح.
وفي النهاية فإن هذه هي لعبة الديمقراطية التي يجري الاحتكام إليها. فالأحزاب المؤيدة للقانون تستقوي بتأييد مجلس النواب والأحزاب الرئيسية له، بينما الأطراف المعارضة من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني تستقوي بالدستور وبآليات دستورية من أجل مواجهة القانون ومحاولة إبطاله. ويصعب تصور أن تنجح الفئات المعترضة في مسعاها هذا. وإن كانت نجحت منذ الآن بتسجيل مواقف معترضة قد تُحسب لها في رصيدها الشعبي والانتخابي، كما نجحت حتى الآن بجعل هذه القضية تتصدر اهتمامات الرأي العام وذلك بالنظر إلى حساسية القضايا التي تتعلق بالفساد. فيما تتشبث الأطراف المؤيدة للقانون بأنه يهدف إلى تحقيق نوع من المصالحة ورفد الخزينة العامة بالأموال، في ظل أزمة اقتصادية تعيشها تونس انعكست على سعر صرف الدينار، والأهم من ذلك أن فرص التشغيل ومكافحة البطالة تبدو ضعيفة، وهو ما جعل رئيس الحكومة يوسف الشاهد يصرح بأن التغيير الذي تم قبل ست سنوات نجح على المستوى السياسي، لكنه فشل على المستوى الاجتماعي.
وفي واقع الحال أن الأمر أقرب إلى إحراز تسوية، مما هو مصالحة، فالصلح يتم بين أطراف اجتماعية أو سياسية متنازعة، وإذا ما جرى التشديد في تطبيق القانون بما يضمن الشفافية والرقابة الفعلية على تنظيم هذه المسألة، وبما يمنع تسرب أموال أو الاحتفاظ بها بطريقة من الطرق، فإنه يمكن حينها القول إن القانون حقق أهدافه في رفد الخزينة العامة بأموال هي من حق هذه الجهة، مقابل وقف المتابعات القضائية، وهو ما يحدث في المنازعات ذات الطابع المالي، وحيث تجري تسوية الأمر بتسديد المبالغ المطلوبة مع فوائدها من طرف الجهة المتابعة قضائيا.
وأياً يكن الأمر فإن تونس تنجح في مواجهة تحديات داخلية بمقادير مختلفة من النجاح، وأحياناً التعثر، وعلى الحكومة أن تثبت في مجال تطبيق هذا القانون أنه يخدم قضية مكافحة الفساد لا الفاسدين كما يشدد المعترضون. وهو ما يستلزم قدراً ملحوظاً من الشفافية والتحصين القانوني الذي يكفل إعادة جميع الأموال، والسماح بطعون محدودة لإنجاح هذه المهمة على أفضل وجه.
محمود الريماوي
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"