تعددت الأسماء والمصيبة واحدة

03:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
الياس سحّاب

المصيبة التي يطلقون عليها في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين «التسوية»، بدأت تحمل في كل مرحلة تاريخية أسماء مختلفة، منذ قبل انتصاف القرن التاسع عشر، وذلك أثناء توقف ثم انكفاء حملة محمد علي بقيادة ابنه إبرهيم باشا على الآستانة وارتدادها إلى القاهرة. فمنذ ذلك الحدث التاريخي الذي شهد توقف انطلاق صحوة تماسك عربي تاريخي، بين القطر العربي الإفريقي في مصر، والقطر العربي السوري في القارة الآسيوية، بدأت دوائر الحكم في كل من فرنسا وبريطانيا، اللتين كانت قد ظهرت لديهما أطماع في الأطراف المترامية للامبراطورية العثمانية، بالاهتمام (وخاصة وزارة الخارجية البريطانية)، بإرسال بعثات إلى المشرق العربي، لدراسة إطلاق مشروع استعماري أوروبي، يحول دون إعادة تحرك الأخطار التي أطلقها محمد علي من القاهرة، وذلك بإنشاء حاجز بشري يقف سداً منيعاً أمام احتمالات تكرار انطلاق مثل هذه المخاطر في المستقبل القريب والبعيد. وحملت المصيبة الأولى منذ ذلك التاريخ اسم إنشاء دولة ليهود أوروبا بعد تهجيرهم منها، في فلسطين حاجزاً سياسياً دخيلاً، يقف مانعاً بين مصر وبقية بلدان المشرق العربي.
ذلك كان الاسم الأول للمصيبة، أما الاسم الثاني، فكان المؤتمر الأول التأسيسي للحركة الصهيونية في مدينة بازل السويسرية، الذي كان الصهاينة الأوائل يبحثون فيه موقع إنشاء دولة ليهود أوروبا بعد هجرتهم من التمييز العنصري ضدهم. وتنقلت الخيارات الأولى بين أوغندا في إفريقيا، والأرجنتين في أمريكا الجنوبية، وفلسطين في وسط البلدان العربية، الفاصل بين قارتي آسيا وإفريقيا.. فانتصر الثالث (فلسطين) غالباً لاحتمال ربطه بالأساطير الدينية للحركة الصهيونية.
اما الاسم الثالث للمصيبة، فقد ظهر في أثناء احتدام الحرب العالمية الأولى، في العام 1917، عندما أصدر الوزير البريطاني بلفور كتاباً للثري الصهيوني روتشيلد يحمل وعداً رسمياً لقيام بريطانيا على التهيئة لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وذلك ارتباطا مبكرا لأحلام بريطانيا بأن تفوز باستعمار فلسطين (الذي سمي باللغة الدبلوماسية انتداباً)، عند نهاية الحرب العالمية الأولى.
بعد ذلك، اتخذت المصيبة اسماً رابعاً، حين قامت بريطانيا على مدى ثلاثة عقود كاملة (من 1918 إلى 1948 )، للتمهيد الفعلي لقيام دولة «إسرائيل»، وذلك برعاية تدفق مئات آلاف اليهود، من جميع أرجاء العالم، (وخاصة أوروبا) بالهجرة إلى فلسطين لاستمرار استيطانها وانتشاره في شتى أرجاء فلسطين بعد تسليح مجموعات المستوطنين تلك، وكبح أية ظاهرة لصحوة وطنية فلسطينية، ولاحتمالات اقتنائها السلاح.
وقد ترافقت المرحلة الرابعة التي حملت اسم الاستعمار البريطاني لفلسطين بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بغفلة عربية عامة، تركزت في قيام قيادة ماسمي ب «الثورة العربية الأولى»، بقيادة الشريف حسين، باعتناق الثقة العمياء بالجهود البريطانية في فلسطين، مع أن اتجاهها المتآمر مع الحركة الصهيونية كان واضحاً.
بعد ذلك، فإن الاسم الخامس الذي حملته المصيبة، المتمادية من عصر لآخر، فقد حملت اسم «نكبة 1948»، حين دخلت سبع جيوش عربية أرض فلسطين، لتهزم في حرب صورية أمام جحافل القوات المسلحة الصهيونية المدربة بأحسن الأساليب العسكرية الحديثة، والمزودة بأحدث الأسلحة. وقد أدت تلك المرحلة الحاسمة من المصيبة إلى احتلال ثلاثة أرباع فلسطين، وطرد سكانها الأصليين منها لتحل محلهم جحافل المهاجرين اليهود، المتدفقين من شتى أرجاء العالم.
بعد ذلك، ورغم ظهور مرحلة التصدي لاكتمال توسع الوقائع العملية للمصيبة، عند انطلاق مرحلة النهوض العربي المعاصر في عقدي الخمسينات والستينات، فقد وقعت المرحلة السادسة من المصيبة، في هزيمة الجيش المصري المدوية أمام الهجوم الجوي «الإسرائيلي» في حرب 1967، التي شهدت اكتمال الوقوع الكامل لأرض فلسطين التاريخية تحت نير الاحتلال «الاسرائيلي».
بعد ذلك حلت المرحلة السابعة من المصيبة، عندما قام الرئيس المصري أنور السادات بتحويل المجرى السياسي للانتصار العسكري العربي الجزئي الذي تم في العام 1973 من أن يتحول إلى رد عملي حاسم على كل آثار هزيمة 1967، فاكتملت المصيبة، بإخراج مصر من قلب الصراع العربي- «الإسرائيلي»، بتوقيع معاهدة سلام مع «إسرائيل» وهي في صميم احتلالها لكامل أرض فلسطين التاريخية.
أما الاسم قبل الأخير الذي حملته المصيبة فكان اتفاق أوسلو، الذي خرج بالمقاومة الفلسطينية عن طريق احتمالات تحرير فلسطين للارتماء في أحضان السيطرة «الإسرائيلية» على أرض فلسطين، واستبعاد احتمالات تصحيح الوضع.
هكذا وصلنا في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين إلى الاسم الأخير للمصيبة وهو «التسوية الأمريكية»، التى ترمي، كما يظهر من تفاصيلها العامة، إلى تصفية تاريخية لقضية فلسطين، منذ، نشأتها قبيل منتصف القرن التاسع عشر، بالاعتراف الدولي الكامل بمشروع تحويل فلسطين إلى حاجز أبدي بين بلدان المغرب العربي (وفي مقدمتهم مصر)، وسائر أرجاء المشرق العربي، وذلك بتسليم فلسطين المحتلة احتلالاً كاملًا إلى «إسرائيل».
يبقى السؤال الأساسي عن مصير هذه المرحلة الراهنة من المصيبة، وهو توقيع شعب فلسطين على صكوك الصفقة، وهو في احتمال يقف كجدار المستحيل أمام اكتمال تلك الصفقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"