تونس وانبعاث الحياة السياسية

03:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

أسفرت الانتخابات الأخيرة عما يشبه المفاجأة المتوقعة! والتعبير هنا يحمل تناقضاً لفظياً فقط، فقد كان من المتوقع أن يحرز حزب النهضة فوزاً طيباً، لكن المفاجأة تمثلت بالنسبة العالية التي حققها هذا الحزب (لا تقل عن أربعين في المئة) وهو الذي ظل محظوراً لنحو عقدين من الزمن، وتعرض أعضاؤه لصنوف شتى من التنكيل والتضييق، فاقت بكثير ما تعرضت له التيارات المعارضة الأخرى ذات المنزع العلماني . ذلك يقود إلى استنتاج سريع لا يجانبه الصواب رغم ذلك، ومفاده أن الجمهور التونسي داخل الديار وخارجها سارع إلى تعويض الحزب عمّا لاقاه من عسف فعمد إلى تزكية النهضة، وكافأها على تضحياتها باعتبارها رمزاً للقوى التي تعرضت لاضطهاد منهجي مديد .

هذا الاستنتاج الذي تزكّي الوقائع صحته، يؤكد في الوقت ذاته أن الاقتراع للحزب الإسلامي جاء في المقام الأول من قبيل مناصرة الحزب والتعويض عن إقصائه، أما تأييد خطهالسياسي والفكري فتلك مسألة قد يكون من المبكر الحكم عليها والبتّ فيها .

لقد حدث شيء مثل ذلك في العراق حين اقترع العراقيون للقوى التي كانت أكثر تعرضاً للاضطهاد في عهد البعث (المجلس الأعلى وحزب الدعوة)، في أول انتخابات تعددية جرت في بلاد الرافدين قبل سبع سنوات .

المقارنة يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك، فقد فاز الإسلاميون في تركيا منذ أواخر القرن الماضي بغير ما ثورة أو انقلاب، بل بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وذلك مع الصعود المتتالي لحزب العدالة والتنمية .

لقد اجتمع في تونس الخضراء واقع الإقصاء السياسي المقرون بالتنكيل كما في حالة العراق وإن بوتيرة أقل وغير دموية، مع حداثة علمانية لم تخل من القسر والتغليب، رغم أنها لم تكن بغير عمق اجتماعي في المدن، والحصيلة هي ما نراه منذ نحو سنة ثورة شعبية شبابية بغير قيادة حزبية أو توجيه حزبي، ينجم عنها انهيار الحزب الدستوري الحاكم، فتسعى الأحزاب لملء الفراغ، وينجح النهضة في احتلال حيز كبير من الفضاء السياسي بين الشرائح الفقيرة وهوامش المدن بما فيها العاصمة ومناطق الريف، مستفيداً ليس فقط من إرث التضحية التي بذلها، بل كذلك من ضمور الحياة الحزبية والسياسية طوال عقود، ما أفسح في المجال، نتيجة الفراغ الناشئ، والمفاجئ، لشيوع خطاب راديكالي مشحون بالعاطفة وذي صبغة دينية وعظيم التأثير في الجمهور، هو خطاب النهضة، وقد برع قادة الحزب في ذلك وفي ما هو أبعد منه، ببثهم التطمينات تلو التطمينات بأن حزبهم ليس في وارد القيام بانقلاب على التعددية الثقافية والاجتماعية التي يتسم بها المجتمع التونسي، وأنهم على الخصوص يناصرون حقوق المرأة ويلتزمون مجلة الأحوال الشخصية، بل نسب إليهم التمسك بالنظام العلماني القائم الذي أرساه الراحل الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال في محاكاة لنهج حزب العدالة والتنمية التركي الذي طالما أعرب زعيم الحزب ومرشده راشد الغنوشي عن إعجابه به وسعيه للنسج على منواله، منوال العلمانية المؤمنة، وقد قرن الغنوشي ذلك باقترابه من الشخصية المعارضة المرموقة المنصف المرزوقي، المرشح الذي حيل بينه وبين الترشح لمنافسة زين العابدين بن علي، وها هو حزب النهضة يستعد، كما يرشح من تصريحات لبعض قادته، لدعم ترشيح المرزوقي لانتخابات الرئاسة .

هكذا تضافرت الظروف أمام تقدم حزب النهضة إلى المركز الأول، وهو الذي لم يسبق له أن خاض انتخابات من قبل، والذي ظل غائباً عن الحياة السياسية العلنية لعقود ومنذ عهد الراحل بورقيبة، وحاله في ذلك حال أغلبية الأحزاب المتنافسة .

في التقدير الآن أن حزب النهضة سوف يسلك بالفعل السلوك الذي سلكه حزب العدالة التركي، وقد يؤدي ذلك إلى بعض الخضات في صفوفه من طرف المتلهفين على أسلمة الدولة والمجتمع، بل إنه سيجد نفسه مدعواً للذهاب أبعد مما ذهب إليه حزب أردوغان وعبدالله غول، في الائتلاف مع قوى يسارية وديمقراطية، وليس أمامه سوى هذا الخيار، إذ إن أي تخويف للمجتمع أو بروز أي ميول انفرادية لديه، سوف يؤدي حُكماً إلى تآكل قاعدته الاجتماعية واتساع دائرة معارضيه، فضلاً عن التأثيرات الخارجية وانعكاساتها على حركة السياحة والنشاط الاستثماري في هذا البلد .

هذه هي في المجمل أبرز الخيارات أمام القوى السياسية الأساسية في الديار التونسية في هذه الفترة الانتقالية الحساسة، التي ستشهد لاحقاً وضع دستور جديد للبلاد وانتخاب رئيس للجمهورية، وبالتالي صياغة مستقبل البلاد لأمد غير قصير
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"