ثمن الثورات وتكاليف الأمن

02:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمران قرأت عنهما هذا الأسبوع، الأول هو رفع الحواجز الخرسانية والموانع المعدنية في منطقة وسط القاهرة، والثاني - وهو السبب في الأول - نقل وزارة الداخلية من منطقة (لاظوغلي) إلى مقرها الجديد في إحدى ضواحي القاهرة بعيداً عن قلب العاصمة. ولاشك أن ذلك سوف يسهم بشكل مباشر في سيولة المرور ويقضي نسبياً على زحام وسط المدينة التي تنتظر محافظها الجديد في أقرب وقت، بعد أن ترك المحافظ السابق بصمة طيبة على وجه قاهرة المعز.
والذي يعنيني في هذا المقال هو الإشارة إلى التكاليف الباهظة والأموال الضخمة التي أنفقناها في السنوات الأخيرة على الإجراءات الأمنية والحوائط الأسمنتية والحواجز المعدنية التي جعلت بعض مناطق القاهرة في مراحل معينة وكأنها ثكنات عسكرية، وأتذكر يومًا ظل فيه سائق سيارتي يتجول بي خلف المبنى القديم للجامعة الأمريكية، في محاولة للوصول إلى ميدان التحرير، لنكتشف أن معظم الشوارع مغلقة في وجوهنا؛ بسبب الاحتياطات الأمنية المرتبطة بحالات الشغب التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة الشعب في يناير/كانون الثاني2011، وأنا أظن أن الخزانة المصرية قد تكلفت مبالغ طائلة قد تصل إلى مئات الملايين من الجنيهات المصرية، كنفقات للإجراءات الأمنية والتغييرات المرورية وبناء الحوائط وتركيب السدود بل والبوابات الضخمة مثلما حدث في شارع القصر العيني، وذلك فضلًا عن تعلية أسوار المباني المهمة وإحاطة أقسام الشرطة ومديريات الأمن والمؤسسات الاستراتيجية والهيئات الأمنية بحوائط خرسانية، حتى أن المرء قد نسي كيف كانت تلك الشوارع المغلقة والمنافذ المسدودة قبل أن يحدث فيها ما جرى لها، ويهمني هنا أن أشير - في هذا السياق - إلى الملاحظات التالية:

أولاً: أتخيل مطارات العالم منذ عدة عقود قبل أن تبدأ حمّى خطف الطائرات وترويع الركاب، لاشك أن الدنيا كانت أفضل بكثير ولكننا لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتجاهل المخاطر حتى ولو كانت هزلية مثلما حدث مؤخراً مع الطائرة المصرية التي جرى اختطافها إلى قبرص. ولا شك أن التعقيدات وعمليات التفتيش المتزايدة في مطارات العالم المختلفة تجعلنا نشعر بحجم المشكلات التي يواجهها المسافرون، فتجمع لديهم بين إرهاق السفر الشاق وأعباء التفتيش التفصيلي، وهم حفاة الأقدام تجردوا من معظم ملابسهم من أجل سلامة الطائرة وسلامتهم. ولا نستطيع أن نلوم سلطات المطارات، فقد قال المصريون قديماً: (إن ابن الحرام لم يترك لابن الحلال شيئاً)، فملايين الأبرياء مأخوذون بجريمة عشرات الإرهابيين، ولم يكن الأمر كذلك في المطارات فقط، بل إنني أتذكر أن ابنة الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر الدكتورة هدى - وهي زميلة دراستي في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة عاماً بعام - كانت تأتي إلى الكلية بلا حراسة تقريباً إلا من أحد (صولات) الشرطة الذي يتابع تحركاتها في هدوء عن بعد يزيد على مائة متر، وأتذكر وقتها أن العقيد عبد الحكيم محيي الدين كان قائداً لحرس جامعة القاهرة وهو ابن عم زكريا محيي الدين وزير الداخلية حينذاك والمناضل المصري العظيم خالد محيي الدين، فقد حاول قائد حرس جامعة القاهرة في البداية أن يتردد على كلية الاقتصاد؛ ليطمئن على أمن ابنة الرئيس، وعندما علم عبد الناصر بذلك قال لزكريا محيي الدين، قل لابن عمك ألا يذهب إلى كلية الاقتصاد إطلاقاً ولا علاقة له بتأمين حياة ابنتي، لقد كانت الدنيا أماناً بشكل نسبي عما نحن عليه الآن.

ثانياً: إن ثمن الثورات فادح وتكاليفها عالية ومخاطرها كبيرة في كل العصور، ويكفي أن نتذكر أن العدوان على التراث الإنساني ونهب المتاحف وتحطيم الآثار هي كلها من النتائج السلبية للثورات الحديثة، لذلك فإن تأمين المناطق الأثرية هو بعد مهم في إطار الإجراءات الأمنية المطلوبة في غضون الثورات، ولعلنا نتذكر ما جرى لمتاحف بغداد وسوريا ومحاولات استهداف المتحف المصري في ميدان التحرير أيضاً، ولولا يقظة المسؤولين في قطاع الآثار وحماية القوات المسلحة للمتحف ومقتنياته، لفقدت مصر أغلى ما تملك! وهل ننسى العدوان على المجمع العلمي المصري البقية القائمة للصحوة الثقافية التي صاحبت الثورة الفرنسية، وهل ننسى أيضاً اقتحام مبنى أمن الدولة ومخاطر ذلك على أمن البلاد والعباد.
ثالثاً: إن التلوث البصري والسمعي نتيجة الملصقات المزدحمة والجداريات الضخمة هي مظاهر تقترن بالثورات الكبرى والتغييرات العنيفة، فالاعتصامات والاحتجاجات تؤدي في مجملها إلى تشويه - ولو وقتي - لشكل المدينة ومظاهر تحضرها، إن الضجيج الصاخب والأصوات العالية هي مظاهر الاضطرابات المفاجئة والتصرفات المتسارعة.
رابعاً: إن عودة الحياة الطبيعية إلى الوطن تقترن بالإجراءات الجديدة من إزالة الحواجز العالية والمصدات الكبرى توفيراً للتكاليف الأمنية والجهد الإنساني المتواصل، لذلك فإنني أظن أن تحسن الحالة الأمنية سوف يؤدي تلقائياً إلى تحسن ملموس في طبيعة الحياة اليومية بدءاً من حركة المرور، وصولاً إلى انتظام السكك الحديدية، بل إلى سلامة المطارات وحركة النقل الدولي.

... إن تكاليف الثورات وحسابات الأمن هي عبء دفعنا ثمنه غاليًا في السنوات الأخيرة لذلك فنحن بحاجة إلى أسلوب جديد يسمح بالحياة العادية حتى في الظروف الاستثنائية!.

* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"