جدار أيديولوجي يشطر أوروبا

04:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

خلال زيارة له إلى روما، في 28 أغسطس المنصرم، وصف رئيس الوزراء الهنجاري فكتور أوربان، وزير الداخلية الإيطالي اليميني المتطرف ماتيو سالفيني ب«البطل»، في حين اعتبر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «غريمه الأساسي» في أوروبا. بدوره قال سالفيني: «هناك اليوم معسكران في أوروبا، ماكرون على رأس القوى التي تدعم الهجرة واللاجئين، ونحن الذين نريد وقف الهجرة غير الشرعية. سنعمل لإنشاء تحالف مستقبلي يضع في رأس خططه الحق في العمل والصحة والأمن؛ أي كل ما ترفضه النخبة التي يديرها ماكرون».
في اليوم التالي رد ماكرون، من الدانمارك، حيث كان يقوم بزيارة رسمية، بأنهما «على حق» بأن ينظرا إليه كمعارض أساسي لهما في أوروبا التي بدأ يظهر فيها الانقسام بين «القوميين والتقدميين».
إعلان اليمين الشوفيني الأوروبي بأن ماكرون خصمه الرئيسي، يعتبر بمثابة هدية لهذا الأخير الذي ينتهز الفرصة لإعادة إنتاج الشرخ السياسي والأيديولوجي الذي أتاح له الفوز في الانتخابات الرئيسية على مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان.
وهو قرر خوض الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي ستقام في 26 مايوالمقبل، تحت هذا الشعار. هذه المعركة الانتخابية امتحان فائق الأهمية؛ كونها ستكون الأولى بعد اعتلائه السلطة العام المنصرم، وكونها ستكون مؤشراً حسياً ملموساً على التوجه السياسي للرأي العام الأوروبي، بعد التحولات الأخيرة. وقد أعلن ماكرون أنه «في عام واحد تغير العالم كثيراً. نحن نشهد صعوداً للقومية وأزمة للتعددية. يجب أن نكون أكثر دينامية في مواجهة المخاطر».
منذ وصوله إلى الإليزيه، زار ماكرون 18 دولة أوروبية من أصل 28 وهو مستمر في زياراته بهدف إقناع شركائه بأن الأوقات صعبة وخطيرة وتتطلب رص الصفوف، وعندما افتتح المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين في 29 أغسطس 2017، كان ماكرون محط أنظار العالم أجمع في وجود رئيس أمريكي عصي على التوقع، ورئيسة وزراء بريطانية تتخبط في حبال البريكست، ومستشارة ألمانية ضعف موقفها بسبب انتكاستها الانتخابية.
لقد أراد ماكرون أن يجسد مرجعية عصرية مميزة على الساحة الدولية، لكنه بعد عام واحد فقط يجد نفسه وحيداً عاجزاً عن تجسيد فكرة التعددية، وتطبيق مشروعه الموعود لإعادة إحياء الاتحاد الأوروبي. «هناك أزمة التعددية، حيث الولايات المتحدة الشريك الذي بنينا معه نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، يدير ظهره لتاريخنا المشترك (...) هناك صعود القومية في أوروبا، وضرورة فهم الهويات العميقة والمتخيلات الجماعية (...) هناك أيضاً على أبواب أوروبا، أزمات الشرق الأوسط، بدءاً من سوريا حيث الوضع الخطير تحديداً في إدلب (...) في وقت بِتنا فيه أمام ساعة الحقيقة، وآخر أشهر النزاع» إلخ، بحسب ما قال مؤخراً في مقابلة مع جريدة «جورنال دو ديمانش».
في خطابه أمام سفراء فرنسا في 29 أغسطس المنصرم، حذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، البلدان الأوروبية غير المهتمة بقيم الاتحاد الأوروبي قائلاً: «كل بلد حر في انتخاب قادته، لكن رؤيتنا للاتحاد الأوروبي ليست منسجمة مع حكومات لا تحترم المبادئ الأساسية لهذا الاتحاد ولا تشعر البتة بأنها ملتزمة بالتضامن الجماعي». وأضاف: «لديهم مقاربة نفعية للاتحاد ولا يختاروا فيه إلا ما يناسبهم، وفي الطليعة المساعدات المالية». وهدد بقيام فرنسا بإعادة النظر في شروط التضامن الاقتصادي الأوروبي، الذي لا ينبغي أن يكون آلياً، في حين أن التضامن السياسي لبلدان أوروبا الشرقية حول القيم والمهاجرين يبقى عشوائياً وخاضعاً للمصادفات.
فعلى سبيل المثال تتلقى بولونيا 15 مليار يورو سنوياً من المساعدات الأوروبية، ما يشكل 3% من ناتجها الداخلي الإجمالي، في وقت ترفض فيه توزيع اللاجئين على الدول الأوروبية بحسب الحصص (كوتا) التي حددتها المفوضية الأوروبية.
من جهتها إيطاليا، هددت الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن المساهمة في ميزانيته إذا لم يُعد النظر في السياسة المشتركة المتعلقة باللاجئين.
منذ وصول سالفيني إلى السلطة في روما، تخطت الموجة الشعبوية الهوة التاريخية شرق غرب. لقاؤه بالهنجاري أوربان، يفتح الطريق أمام تحالف بين الأحزاب المناوئة للاتحاد الأوروبي على مستوى القارة. من جهته يدافع ماكرون، مدعوماً من أنجيلا ميركل، عن التضامن مع قضية المهاجرين في مواجهة «القوميين الشوفينيين» باسم أوروبا، التي تحمل قيم الليبرالية والحرية والانفتاح. إنه جدار أيديولوجي جديد يقوم في أوروبا بعد انهيار جدار برلين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"