جدلية الحقيقة ونصف الحقيقة

05:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

منذ فترة قرأت في طائرة سفر مقالاً عن أن أول وأفدح ضحايا الحروب والصراعات هي الحقيقة؛ ذلك أن كل الأطراف المتحاربة ستسعى للتلاعب بها، وستحاول إخفاءها؛ من أجل تحقيق الانتصار المطلوب.
لكن ما لفت انتباهي هو وقوع كاتب المقال في نفس المحظور، فلقد أشار بأصابع الاتهام والنقد إلى ثلاث جهات؛ عربية وإقليمية ودولية، تمارس طمس ما اعتبرها الكاتب حقائق تتعلق بالصراعات العسكرية والسياسية، فيما بين تلك الجهات الثلاث كمحور واحد وبين من يواجهونها، ويتصدون لها من جهات عربية وإقليمية ودولية أخرى.
فالكاتب لم يترك شاردة أو واردة، مما تحاول طمسه من حقائق تلك الجهات الثلاث المتهمة، إلا وذكرها وفندها؛ لكنه وقع في مطب الموضوعية المنحازة الانتقائية؛ عندما لم يذكر ولا حتى ممارسة واحدة من طمس الحقائق من قبل المعسكر المقابل، الذي على ما يبدو، إما يناصره أو على الأغلب يخاف من عواقب نقده وإظهار عيوبه.
هنا، مع الأسف، يسقط قناع البعض من المثقفين العرب: فهم يفتشون عن حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات الغير، وفي الوقت نفسه هم يمارسون إخفاء وطمس حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات المعسكرات التي ينتمون إليها أو يخافون من بطشها المادي والمعنوي.
الآن، في أجواء الظلام، الذي يخيم على مجتمعات أمة العرب، سواء بسبب ظاهرة الاستقطابات المذهبية الطائفية الحادة، أو بسبب ما تمليه الصراعات السياسية والأمنية المجنونة، أو بسبب الرعب والخوف الذي يملأ أرض العرب؛ بسبب تنامي العنف والإرهاب وما يولده من ردود أفعال من قبل هذه الجهة أو تلك.. في هكذا أجواء تمارس مجموعة متنامية من مثقفي وكتاب وناشطي السياسة في بلاد العرب نفس الظاهرة المجروحة، التي نتحدث عنها.
تعدد الأسباب، ولكن ظاهرة طمس الحقيقة تمارسها أعداد متنامية من الجهات والقوى والقيادات يوماً بعد يوم، حتى أصبح التلفيق والكذب وإعطاء نصف الحقيقة وإخفاء النصف الآخر عادة مترسخة في حياتنا العربية الحالية. وأصبحت الكثير من الكتابات والخطابات السمعية والبصرية ومواعظ المساجد والمآتم وأحاديث المجالس تمارس تلك العادة وتبرر ممارستها بألف حجة وحجة.
وإذا كان كاتب المقال قد ركز على الحروب، وما تقود إليه من ضياع للحقيقة، فإن الأسباب الأخرى التي تنخر الجسد العربي لا تقل أهمية. هناك الفساد وانعدام الشفافية وغياب المحاسبة والهيمنة على البرلمانات وندرة الشرعية الديموقراطية وغيرها كثير. جميعها تقود إلى ضياع الحقيقة أو تزويرها أو إلباسها ألف قناع وقناع؛ من مثل: القناع الديني أو العرقي أو القبلي أو التاريخي.
أصبح إخفاء الحقيقة وممارسة الكذب وباءً ينتشر في ساحات الحروب البينية العربية، وفي بؤر الصراعات التي تتواجد فيها الجماعات الإرهابية الملتحفة برداء دين الإسلام زوراً وبهتاناً، وفي معارك الخلافات السياسية العربية والإقليمية المتناغمة مع مخططات الخارج بالوكالة.
أصبح إخفاء الحقيقة وتزوير التاريخ سمة من سمات النظر في مواضيع قومية، كالموضوع الفلسطيني؛ حيث أصبح تزوير التاريخ مقبولاً عند البعض، وأصبحت الضحية المنهكة هي الملامة، والغاصب المجرم هو الضحية. في عالم الكذب يضيع الشرف وتختفي المروءة ويهيمن التوحُش الحيواني. لا حاجة هنا لوجود حرب؛ إذ يكفي وجود الانتهازية الطامعة في العطايا والمراكز والوجاهة.
بل وانتقل مرض إخفاء الحقيقة إلى أنظمة التواصل الاجتماعي في بلاد العرب في شكل سكوت عن جريمة أو تعاطف غير صادق أو دفاع تبريري عن جرائم، وما عاد الإنسان يعرف من يصدق ومن يكذب؛ ذلك أن ممارسة كشف طمس الحقيقة عند الغير، وعدم التعرض لطمس الحقيقة عند الجماعة أو القبيلة أو الحكومة أو علماء الدين، من الذين ينتمي لهم المتحدث، أصبح كارثة اجتماعية في بلاد العرب.
في الماضي قرأت قولاً لأحدهم إنه لا توجد حقيقة في الواقع، وإنما الذي يوجد دوماً هو نصف الحقيقة. لقد احتقرت قائل ذلك القول في حينه. اليوم أسأل نفسي: هل كان صاحب ذلك القول يقرأ ما ستصل إليه أمة العرب في أيامنا التي نعيش؟
لكن هناك قول شهير إن الحقيقة تحرر من يطلبها ولا يقبل أنصاف الحقائق بديلاً عنها. من حسن حظ هذه الأمة أنه لا يزال فيها من يمارسون تلك الفضيلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"