جدل التنوير والدولة الحديثة

02:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يشكّل العالم العربي مختبراً للكشف عن التناقضات بين المباني والمعاني، حيث إن العرب استخدموا مصطلح الدولة الحديثة لوصف دولهم الناشئة بعد الاستقلال عن الأجنبي، والتي دعيت أيضاً ب«الدولة الوطنية»، ومفهوم الدولة الحديثة بالمعنى الذي استخدم تضمّن معاني مختلفة، منها القطع مع الماضي الاستعماري، والسيادة، ووجود دستور، وسلطات تشريعية، وقضائية، وتنفيذية، وآليات لتنفيذ القانون، وغيرها من المعاني التي تشير إلى «دولة حديثة».
لكن مفهوم وواقع الدولة الحديثة في الغرب مختلف كلياً من حيث النشأة، والظروف، والأسباب المولّدة، فقد سبق نشوء الدولة الحديثة حركة تنويرية، انطلقت من إنجلترا، وتأسست أكثر في فرنسا، لتعمّ بعد ذلك أوروبا. ويعدّ القرن الثامن عشر هو قرن التنوير، حيث عرفت هذه الحركة زخماً كبيراً، نتيجة صعود الطبقة البرجوازية الفرنسية التي قادت، عبر مصالحها ومنظومتها القيمية الجديدة، حركة التنوير، ودعمت أفكارها وممثليها من الفلاسفة، والفنانين، والأدباء.
وفي صلب المعارك الفلسفية والفكرية للحركة التنويرية، حارب التنويريون الظلامية الدينية، ونظام الحكم المطلق، وأكدوا على دور العقل النقدي، ومساهمة العلوم في تطوير جميع مناحي الحياة، بما فيها الجانب الفكري، فقد انتهج الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626)، الذي تعود إليه بدايات الحركة التنويرية، مساراً فكرياً يقوم على الملاحظة والتجريب، متجاوزاً بذلك رسوخ المنطق الأرسطي اليوناني الذي يعتمد على القياس، مؤكّداً على أهمية الشك في الفكر، والعلم.
ومنذ القرن السادس عشر، راحت أوروبا تخطو خطوات واسعة في دكّ المباني الفكرية القديمة القائمة على اليقينية، وإحلال مبدأ الشك كمبدأ رئيسي في محاكمة الأفكار، والظواهر الطبيعية والاجتماعية، ولم يعد معقولاً قبول البديهيات المتوارثة تاريخياً، أو التفسيرات الجاهزة للأحداث، كما لم يعد معقولاً قبول الوصاية الفكرية للمؤسسة التقليدية، التي احتكرت تفسير نشأة العالم، أي المؤسسة الكنسية، وبالتالي فقد تمّ التأكيد على مكانة الفرد، ومكانة العقل، في الوقت نفسه، في الوصول إلى المعرفة.
إذاً، وضعت الحركة التنويرية العقل مقابل النقل، والشك مقابل اليقين، وأعطت الفرد مكانة خاصّة، ومميزة عن المجتمع، والسلطة، والمعرفة مقابل الميتافيزيقيا، والكشف عن الظواهر بالتجربة العلمية مقابل السرديات الدينية، وبذلك أسّست لعالم جديد، مناهض بطبيعته لأية سلطة مطلقة، وقد ولّدت هذه الحركة نشاطاً كبيراً في النظريات الاقتصادية، وتحليل الصراعات الاجتماعية، وصاغت تصوّرات وضعية عن العقد الاجتماعي، بوصفه عقداً يمثّل مصالح مختلف الفئات الاجتماعية، التي تتشارك في صياغته، ويسري مفعوله بعد موافقة أغلبية المجتمع عليه، كما أنه بالإمكان إعادة النظر فيه على الدوام.
والدولة الحديثة في أوروبا هي نتاج هذا السياق، وتطوّرت مؤسساتها في خضم هذا السعي الكبير لترسيخ مجتمعات معرفية، وتنظيم الشؤون العامة انطلاقاً من التوافق بين مكونات المجتمع، بعد أن تراجعت مكانة الميتافيزيقيا، ممثّلة في المؤسسة الكنسية، مفسحة في المجال أمام نشوء مجتمعات علمانية، تفصل الحياة الدينية عن التدخل في شؤون الدولة والأفراد، في الوقت نفسه، تضمن الدولة الحريات الفكرية والعقائدية، بما فيها الحريات الدينية.
أما ما عرف في عالمنا العربي بالدولة الحديثة فهو وليد سياق مختلف، هو سياق التناقض مع الخارج، ومحاولة بناء الهويّة، وليس من خلال حركة فكرية علمية سياسية اقتصادية تقطع مع الماضي، كما أن هذه الدولة التي تزعم الحداثة استثمرت في الماضي، كما استثمرت في الميتافيزيقيا، والمؤسسات الدينية، ومعظمها مؤسسات تقليدية ومحافظة، مهمتها الحفاظ على النقل (الموروث الفقهي)، وتأكيده في الحياة العامة.
إن واحدة من المشكلات الرئيسية والمعيقة أمام التنوير، والمتمثلة في الأمية، لم تحلّ في معظم الدول العربية، إذ تبلغ نسبة الأمية في العالم العربي نحو 19% من السكان، أي نحو 96 مليون نسمة، بحسب إحصاءات 2014، وتبلغ هذه النسبة، كما في مصر، أكثر من 25%، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، وهو ما يدعو للتأمل بشأن الميزانيات والخطط والبرامج التي استهلكت عربياً للحدّ من الأمية، من دون أن تحقق الجدوى المرجوّة منها.
كيف لدول لم تتجاوز عقبة الأمية، في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، أن تكون حديثة بالمعنى التنويري، وأن تكون مؤسساتها الحكومية مطابقة لمفهوم الدولة الحديثة؟
إن الانتقال نحو صيغة الدولة الحديثة، وتطابق المعنى والمبنى في الدولة، لا يمكن من دون حركة تنويرية، وهذه الحركة لا يمكن لها أن توجد، وأن تتبلور، وأن تكون فاعلة، في ظل غياب نخب اقتصادية وسياسية لها مصلحة في التنوير، ومؤمنة بضرورته من أجل التقدّم، وهو الأمر الذي يبقى الغائب الأكبر في عالمنا العربي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"