جدل الداخل والخارج في الأزمات

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

فيما يقترب العام الجاري من نهايته، فإن أجزاء واسعة من منطقة المشرق العربي تعيش أكثر فأكثر على صفيح ساخن، وسط موجات من الاحتجاجات والاحتقانات. غير أن ذلك يبقى جانباً من المشهد، فيما تدل بقية الجوانب على أن الأمن الجماعي القومي يتعرض لتدخلات خارجية تسهم في تأجيج الأوضاع، وتهدد سيادة الدول، وتنذر بمرحلة من عدم الاستقرار قد لا تكون قصيرة الأمد، أما تداعياتها على المستويين المتوسط والبعيد فتبقى في علم الغيب.
وليس من الافتئات القول إن النظام العربي الرسمي وجامعته القومية قد أخفقا في صياغة تصورات ملزمة لمحددات الأمن الجماعي، لدرجة باتت معها منطقتنا من أكثر أجزاء العالم عرضة للتدخلات الأجنبية مختلفة الأشكال والمظاهر والمصادر. ويغدو الأمر أكثر تعقيداً مع استدخال العنصر الأجنبي في شبكة المصالح والمعادلات الاجتماعية والسياسية في غير بلد عربي. ولهذا ينظر المرء بقلق للتطورات الجارية، في بُلدان مثل العراق ولبنان على الخصوص إضافة إلى بلدان أخرى. إذ إنه ما كان ممكناً أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه من اختلالات اقتصادية واجتماعية في البلدين، وفي الوقت ذاته فإن موجات الاحتجاجات تثير بدورها موجات من الاستقطابات والانقسامات الأهلية.
على هذا النحو يبدو الوضع مُركّباً، وغير قابل للأسف لمعالجات سريعة أو موضعية، لا في نطاق أمني ولا سياسي. فالانقسامات باتت عمودية وأفقية، وقد بلغت حد الاختلاف على هوية البلد، وعلى طبيعة المسار الوطني المقبول والمرتجى.
ويلعب العنصر الخارجي، الأجنبي دوراً مشهوداً في هذه الاستقطابات. علماً أنه في حالة لبنان مثلاً فقد كان هذا البلد يعقد صداقات مع مراكز إقليمية ودولية شتى على مدى عقود ومنذ الاستقلال قبل أكثر من سبعة عقود، من دون أن تهتز اللحمة الوطنية أو يتأثر النسيج الاجتماعي بصورة كبيرة ومقلقة.
أما في العراق فقد أسس النظام السابق لاضطراب العلاقة مع العالم الخارجي عبر اجتياح الكويت، والاندفاع قبل ذلك في الحرب الطويلة مع إيران وكانت الدولة الأخيرة شريكة في هذا الاندفاع. ثم كانت الحصيلة بعد عقود أن إيران وأمريكا أصبح لهما باع طويل في بلد الرشيد، مع محاولة إرساء وفرض أمر واقع مفاده أن هذا البلد سيظل بحاجة ولأمد طويل إلى نفوذ الآخرين على أرضه!
ومن الظلم للحقيقة القول إن في ذلك عودة إلى الوراء، أو إلى الماضي. ففي ما سبق في سنوات الكفاح من أجل الاستقلال وبعد الاستقلال، فقد كانت مجتمعات المشرق أكثر انسجاماً وتماسكاً وازدهاراً مما هي عليه الآن، ولم يكن للهويات الفرعية المناطقية والمذهبية من تأثير سلبي يذكر. ولم يكن استجلاب الأجنبي وجهة نظر. فقد كان شعار رائج مثل «لا شرقية ولا غربية» تعبيراً عن التمسك بالاستقلال الناجز، وعدم الالتحاق بأي قوة أجنبية مهما كان وزنها وجبروتها.
وبينما تطمح دول إقليمية مثل إيران وتركيا، ناهيك عن الدولة العبرية إلى مد نفوذها وتمتلك برنامجها الخاص للتمدد، فإن كياننا العربي لا يمتلك برنامجاً للحفاظ على الأمن الجماعي في إطار قومي، ولا حتى للسلم الاجتماعي أو الأهلي الداخلي، فضلاً عن الصعوبات الاقتصادية، والإخفاق في بناء دول حديثة تحتكم إلى الدستور وسيادة القانون، مع نشوء انقسامات اجتماعية لا سابق لها. وأمام هذا الضعف أو الاضطراب البنيوي وجدت التدخلات الأجنبية فرصتها للنفاد إلى المناطق الرخوة من الكيان العربي، وهو ما فاقم الأوضاع الصعبة في بلدان مثل العراق ولبنان، وعلى رأسها قضايا الفساد، إذ إن مكافحة هذه الآفة الخطيرة خضعت للتسييس، ولعملية تواطؤ بين الأطراف النافذة أو المستفيدة من هذا الخراب. وتلك هي بعض أوجه الاستعصاء الذي يكتنف الأزمة السياسية في هذين البلدين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"