جغرافيا التاريخ في أوكرانيا

03:26 صباحا
قراءة 4 دقائق
ما يحدث في شرق أوكرانيا في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة لا يمكن التعامل معه بأية حال من الأحوال، بوصفه يمثل نزاعاً حدودياً طارئاً يمكن تجاوزه بمجرد صياغة اتفاق متهافت وسريع من قبل الأطراف المتنازعة؛ إنه بكل بساطة صراع إرادات بين أمم لم تحسم بعد خلافاتها الجغرافية والتاريخية على أرض الواقع . ولن يكون بإمكانها تجسيد مثل هذا الحسم بمعزل عن حسابات القوى الإقليمية التي باتت تمثل في اللحظة نفسها مستقبل التطور الطبيعي للقوى العالمية المقبلة، وبخاصة في هذا المنعطف التاريخي الذي تشهد فيه القوة الأمريكية تراجعاً غير مسبوق، بموازاة تقدم مطرد للعملاق "البروسي" الذي أراد في بداية الأمر، أن يُقنع جيرانه بموته الافتراضي حتى لا يؤجج هواجسهم ومخاوفهم من الرايخ الألماني .
من المؤكد- في كل الأحوال- أن معاني وإيحاءات الجغرافيا هي أكثر بكثير من إحالاتها الاشتقاقية البسيطة والمباشرة، وعليه فالعودة القوية لعناصر الذاكرة التاريخية للشعوب من شأنها أن تعيد رسم تضاريس جديدة لكرة أرضية، اعتقد العالم الأنجلو-أمريكي أنه أعاد رسم إحداثياتها بشكل كامل ونهائي، في اللحظة التي نرى فيها أن الجغرافيا المستندة إلى معطيات التاريخ والذاكرة الجماعية للأمم لا يمكنها أن تندثر هكذا وكأنها قصور من نحت الخيال، لأن الهويات التي تؤسسها وتسندها تظل تنبُض بالحياة وتبقى محتفظة بجذوتها، وقادرة، في السياق نفسه، على الاستيقاظ من جديد من رحم رماد الأحداث الإنسانية الكبرى .
لاشك في زعمنا أن الذكاء العملي والتكتيكي ل"الأوليغارشية الغربية" - وفق تعبير برتراند بادي - لا يمكنه أن يقضي بشكل كامل على الاستراتيجيات الثاوية للشعوب العريقة، التي تنسج وتحيك جغرافيتها من رحم أحداث التاريخ لتصنع لنفسها أمجاداً لا تزيلها الانكسارات التكتيكية العابرة، ويؤكد هذا المعطى أن الحلم الأوروبي لسكان أوكرانيا الغربية لا يمكنه أن يصنع تاريخاً جديّاً، ولا أن يرسم بالتالي تضاريس صلبة قادرة على مواجهة تفاصيل الذاكرة الحضارية للمنطقة، لأنه حلم ينبني على أوهام قارة ذات أنا متضخم، تملك من التاريخ أكثر ممّا تملك من الجغرافيا، وتسعى إلى إعادة تشكيل مستقبلها وفق سجلات ترعاها ترسانة ونظم التراث والثقافة الجرمانيتين . هذه القارة بألوانها الجرمانية الجديدة، التي أمعنت في إذلال وإفقار اليونان، الذي يمثل مهد الحلم الأوروبي الذي تحدثت عنه النخب الألمانية المتعاقبة، لن تكون في كل الأحوال فضاءً مثالياً من أجل تجسيد أحلام غلاة الوطنيين الأوكرانيين .
إن العالم كما نشهده الآن أو كما سنعيشه غداً، هو عصارة الجغرافيا الإنسانية والطبيعية التي هي أمّ التاريخ بحسب تعبير "روبير كابلان"، جغرافيا شديدة التعقيد والتركيب تعمل الآن على الانتقام من تكتيكات لاعبي الشطرنج السياسي، لتعيد فرض قواعدها من أجل مواجهة عبثية أصحاب المقولات المتسلطة الهادفة إلى طمس الاختلاف والتنوع، وإلغاء جغرافيا الأمم والحضارات .
تذهب- في سياق متصل- بعض التحاليل الغربية المتحاملة على روسيا، والتي لا ترى في تحركاتها الاستراتيجية والجيوسياسية سوى تهديد جديد لأوروبا، إلى أن روسيا باتت تمثل القوة الجغرافية الكبرى في هذا العالم، وأنها لم تشعر ولن تشعر بالأمن إلا من خلال قيامها ب"غزو" و"احتلال" أقاليم جديدة، وبالتالي فالرئيس بوتين بوصفه يمثل الإفراز الطبيعي للتاريخ الروسي، سيسعى من الآن فصاعداً إلى إعادة تشكيل البعد الأوروبي للجغرافيا الروسية من خلال إشاعة الفوضى لضم أجزاء من أوكرانيا التي من دونها ستظل روسيا إمبراطورية آسيوية أكثر منها أوروبية . وهذه التحاليل الغربية التي تركز على الحجم الجغرافي لروسيا تؤكد - في اعتقادنا- أن الأوليغارشية الغربية ستراهن في المرحلة المقبلة على تحطيم الجغرافيات المتضخمة في كل العالم، لأنها أضحت تشكل تهديداً جديّاً لتكتيكاتها المعولمة . وهناك في المقابل هجوم غير مسبوق على النزعات القومية والوطنية التي يُراد لها أن تدفع ثمن ما يوصف بانعدام الاستقرار في هذا المحيط الدولي الذي ترعاه الاحتكارات العالمية، ولقد عبّر عن الفكرة الرئيس الفرنسي السابق فرونسوا ميتران عندما قال في خطاب له في ألمانيا إن "القومية هي الحرب" وهو الموقف ذاته الذي دافع عنه بعض المفكرين الألمان الذين دافعوا عن الفكر الأمريكي المعولم، واعتبروا النزعة القومية شرّاً مطلقاً يجب التخلص منه ومواجهته في المستقبل . على أنه ورغم هذا الكره غير المبرّر للقومية وللجغرافيا الوطنية للدول، إلا أن العالم شهد في ظل العولمة الغربية تضاعفاً غير مسبوق للدول، ولكنه للأسف تضاعف قائم على قضم الكيانات الوطنية والقومية القوية والمتأصلة القادرة على مواجهة الأوليغارشية الغربية .
يمكننا أن نخلص في الأخير إلى أن الحمولة الجغرافية للتاريخ في أوكرانيا وروسيا سيكون لها الدور الحاسم في إعادة تشكيل الفضاءات السياسية لعالم ما بعد الأحادية القطبية، وخطأ بوتين - ربما- هو أنه اضطر بحكم تطورات الأحداث وتسارعها إلى اختيار هذا التوقيت الذي يبدو غير مناسب، من أجل إعادة بناء جغرافيا أوروبية جديدة، في لحظة، ما زالت تعمل فيها ألمانيا على ترسيخ أسس جرمانيتها الناعمة والمعدّلة في وسط وشرق أوروبا، إذ لا أحد يبكي في الغرب حقيقة، على ما يسمّى "وحدة أوكرانيا"، لأن الكل غارق حتى أخمص قدميه، سراً وعلانية، في الغناء على ليلاه وعلى جغرافيته السياسية الراسخة في أعماق التاريخ .

الحسين الزاوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"